عندما كنت أطالع وأقراً في مذكرات حمد لجاسر -رحمه الله- (السوانح) لفت نظري إلى شخصية إدارية، وقامة علمية مثقفة، يقول الجاسر عنه بعد سرد بعض وظائفه الإدارية، ومعلقاً على أعماله الكثيرة، واصفاً أخلاقه الإدارية، حيث قال: عند إدارته للمعهد السعودي كان حازماً في إدارته، ذا هيبة بين الطلبة، وقد اعتاد بعضهم التأخر صباحاً أو الخروج من الفصل أثناء إلقاء الدروس، فكان يعاقب من يحدث منه ذلك بصرامة وحزم، بل كان كثيراً ما يفاجئ المُعلّم أثناء التدريس بالدخول في الفصل والجلوس بجانب آخر التلاميذ، وملاحظة سير الدراسة -انتهى كلامه-، هذه الشخصية هي الأستاذ المربي والمعلم والقيادي الإداري والإعلامي والكاتب الصحفي، بل هو أحد طلبة العلم الشرعي إبراهيم الشورى -رحمه الله-، لقد كانت شخصيتنا لها دور كبير في إقناع حمد الجاسر بمواصلة الدراسة في المعهد السعودي، حيث كان قد رغب الانتقال إلى مدرسة الفلاح، ووصفه الجاسر بأنه في منتهى الرقة واللطف، واستطاع بحسن أسلوبه أن يزيل ما عند الجاسر -تلميذه- من تردد في البقاء بالمعهد وما ذاك إلاّ دليلاً على عمق تفكيره وقوة إقناعه. لم تنقطع الصلة بينهما، وحينما عًين شخصيتنا وكيلاً في إدارة المعارف، عرض على تلميذه الجاسر أن يكون مدرساً في مدرسة ينبع الابتدائية، وقبل بذلك، وقد تكرر اسم إبراهيم الشورى في مذكرات حمد الجاسر في عدة مواقف نظراً لتعدد مناصبه القيادية، ولقد وصف حمد الجاسر شخصيتنا أنه من ذوي التأليف في التربية منذ وقت مبكر. كان إبراهيم الشورى أول مدير للإذاعة، شارك وعمل في أكثر من حقل تعليمي وإداري وإعلامي، ولقد كان من أولياته أنه أول مدير للإذاعة السعودية حينما تأسست بمرسوم ملكي أصدره الملك عبدالعزيز -رحمه الله- بتاريخ 23 رمضان، عام 1368ه، وكانت الإذاعة مقرها مكةالمكرمة، فهو بهذا العمل الإعلامي رائداً فيه، وقد استمر في هذه الإذاعة حتى عام 1375ه أي سبعة أعوام. بدايات الإذاعة في لقاء صحفي مع إبراهيم الشورى -رحمه الله- تحدث عن تجربته في الإذاعة وعن بدايته في التعليم وغيرها من المحطات في رحلته الوظيفية، وكان هذا اللقاء بمجلة «اقرأ» بتاريخ 03 / 04/ 1402ه. وارتفع عام 1368ه في الثالث والعشرين من رمضان صوت جهوري قائلاً: هنا إذاعة المملكة العربية السعودية، التقط هذا الصوت المجلجل كل من بجانبه مذياع بمكةالمكرمة وإن كان مدى الإذاعة السعودية لا يتعدى بضع كيلومترات، ولقد كان هذا الصوت هو صوت الرائد إبراهيم الشورى من أحد جبال مكةالمكرمة. لقد كانت هذه الإذاعة هي النواة الأولى والانطلاقة في سماء إذاعة المملكة، وكانت البدايات متواضعة جداً، ويذكر شخصيتنا تجربته في الإذاعة عندما تأسست، حيث كانت تعمل فقط في موسم الحج ويورد بعض الأسماء الذين كانوا معه في الإذاعة وهما الرائد التربوي محسن باروم والشاعر المشهور حسن قرشي -رحمهما الله-، وكانا من أوائل السعوديين في الإذاعة، وذكر إبراهيم الشورى عبر هذا اللقاء أنه كان مسؤولاً بوزارة لمالية عن قسم الدعاية والإعلان، وهذا القسم اختاره ليكون مديراً لهذه الإذاعة، وبعد عامين أصبحت الإذاعة تبث يومياً، وأصبح لها برنامج يومي تبث فيه البرامج الثقافية والدينية، وكانت إذاعة مكة تنقل أذان المسجد الحرام آنذاك، وكان البث ساعة بعد الفجر وساعتين بين صلاتي المغرب والعشاء عندما أصبح البث يومياً، بعد سنتين من تأسيس الإذاعة، وأسهم شخصيتنا من خلال هذا المنصب في توظيف الإعلام لخدمة الدعوة والثقافة ونشر الوعي الديني والوطني. كتاتيب وحلقات ولد إبراهيم الشورى 1322ه الموافق 1904م، وكان مولده في فترة سبقت توحيد المملكة، وهي مرحلة اتسمت بعدم الاستقرار السياسي، وضعف المؤسسات التعليمية النظامية، واعتماد المجتمع على التعليم التقليدي القائم على الكتاتيب وحلقات العلم، وقد أسهمت هذه الظروف التاريخية في تشكيل سمات شخصيتنا، إذ نشأ وهو يدرك أهمية العلم في إصلاح المجتمع، ودور التعليم في بناء الدولة، فانعكس ذلك على اهتمامه المبكر بالمعرفة، وسعيه لاحقًا إلى تطوير التعليم وتنظيمه، وقد نشأ شخصيتنا في بيئة محافظة تقدّر العلم الشرعي واللغة العربية، فبدأ تعليمه في الكتاتيب، حيث حفظ القرآن الكريم وتعلّم مبادئ القراءة والكتابة، وكان لهذا التعليم أثر كبير في ترسيخ القيم الدينية والأخلاقية في شخصيته، وفي تكوين ملكته اللغوية، ثم واصل طلب العلم في حلقات العلماء، وتلقى علوم التفسير والحديث والفقه، إلى جانب اهتمامه باللغة العربية وآدابها، كما اطّلع على الفكر الإسلامي الإصلاحي، وتأثر بالدعوات التي نادت بضرورة الجمع بين الأصالة والمعاصرة، والاستفادة من النظم الحديثة دون التفريط في الثوابت الدينية، وقد أسهم هذا التكوين المتوازن في جعله قادرًا على التعامل مع متطلبات التعليم الحديث، مع الحفاظ على الهوية الإسلامية، وهو ما ميّز مسيرته التربوية والفكرية. تنوّع وثراء واتسمت المسيرة الوظيفية لإبراهيم الشورى -رحمه الله- بالتنوّع والثراء، إذ تنقّل بين عدد من المناصب التعليمية والإدارية والثقافية، مما يعكس الثقة التي حظي بها، واتساع خبرته، وتعدّد مجالات إسهامه في خدمة الدولة والمجتمع، فقد عمل مفتشًا بمديرية المعارف السعودية 1346ه، وكان لهذا العمل أثر كبير في اطلاعه المباشر على واقع التعليم، ومكامن القوة والضعف فيه، مما أسهم في تكوين رؤيته الإصلاحية للتعليم النظامي، ثم عُيّن مديرًا للمعهد العلمي السعودي في مكةالمكرمة، وكان ثاني من تولّى هذا المنصب، حيث اضطلع بتنظيم العملية التعليمية، والإشراف على المناهج والمعلمين، ووضع الأسس الإدارية للمؤسسة، كما عمل وكيلاً لإدارة الدعاوي والحج في مكةالمكرمة، ثم وكيلاً معاونًا لإمارة الظهران حتى عام 1366ه، وهي مناصب إدارية أكسبته خبرة في الشأن العام، وأتاحت له فهمًا أعمق لإدارة شؤون الدولة في مرحلة التأسيس، كما عمل مستشارًا لوزارة المالية السعودية، ومديرًا للمكتب السعودي في القاهرة، مما أتاح له الاحتكاك بالبيئات الثقافية العربية، وتوسيع آفاقه الفكرية، ثم تولّى إدارة الثقافة الإسلامية برابطة العالم الإسلامي، حيث أسهم في نشر الثقافة الإسلامية المعتدلة، وتعزيز التواصل الثقافي بين العالم الإسلامي، وكان لشخصيتنا دور فاعل في تطوير التعليم، ولا سيما التعليم الديني النظامي، فقد سعى إلى الانتقال بالتعليم من صورته التقليدية إلى صورة أكثر تنظيمًا، تعتمد على المناهج المقررة، والجداول الدراسية، والتقويم المنتظم، كما اهتم بربط العلوم الشرعية بالعلوم اللغوية، إيمانًا منه بأن إتقان اللغة العربية شرط لفهم النصوص الشرعية، وركّز على إعداد المعلم، معتبرًا إياه حجر الأساس في العملية التعليمية، فكان يحرص على الجمع بين الكفاءة العلمية والاستقامة الأخلاقية. كاتب ومفكر لم يكن إبراهيم الشورى -رحمه الله- إداريًا وتربويًا فحسب، بل كان كاتبًا ومفكرًا له إسهاماته الواضحة في الساحة الثقافية، وقد جاءت كتاباته معبّرة عن وعيه بقضايا عصره، وحرصه على تقديم رؤية إسلامية معتدلة تعالج مشكلات المجتمع، وتناولت مؤلفاته موضوعات متعددة، من أبرزها حقوق الإنسان، والقيادة السياسية، وبناء الدولة، والتأكيد على القيم الأخلاقية في الحكم والإدارة، وقد اتسمت كتاباته بالوضوح والاتزان، والبعد عن التعقيد أو الغلو. وشخصيتنا لديه حصيلة قوية بالعلم الشرعي والثقافة العامة وهو في الحقيقة طالب علم شرعي بدليل أنه اعتنى بالكتب الشرعية ونشرها مع رئيس القضاة عبدالله بن حسن آل الشيخ -رحمه الله-، وقد علق على نشرة قديمة لكتاب زاد المعاد لابن القيم، فهو طالب علم شرعي وكاتب اجتماعي وأدبي ومؤرخ، وله كتابات في التربية والتعليم كما سبق وذكرت، وهذه المؤلفات سردها العلامة علي جواد الطاهر -رحمه الله- في كتابه (معجم المطبوعات العربية) في المملكة العربية السعودية، المجلد الأول وقد فاته أن يذكر كتاب (زاد المعاد) أنه من منشوراته، وخلّف شخصيتنا تراثًا علميًا وفكريًا متنوعًا، يعكس سعة اطلاعه، واهتمامه بالقضايا الإسلامية والتربوية والاجتماعية. تحقيقات وتاريخ وقد تنوّعت مؤلفات إبراهيم الشورى -رحمه الله- بين كتب فكرية وتربوية، ودراسات تاريخية، وتحقيقات علمية، فمن مؤلفاته ذات الطابع التربوي والدعوي كتاب (طريق السلام وقواعد الإسلام) وكتاب (العهد والميثاق في الإسلام)، وكتاب (النظافة والنظام في الإسلام)، وكتاب (الرياضة والرحلة في الإسلام)، حيث ركّز فيها على إبراز شمولية الإسلام، وارتباطه بسلوك الفرد وتنظيم المجتمع، وفي الفقه والعبادات، وألّف كتاب أقوال المذاهب المختارة في الحج والعمرة والزيارة، كما قام بتحقيق كتاب عمدة الفقه الحنبلي للإمام ابن قدامة، وهو عمل يدل على رسوخ قدمه في العلوم الشرعية واهتمامه بالتراث الفقهي، أمّا في المجال التاريخي والتوثيقي، فقد ألّف كتاب صحائف خالدة عن الملك عبدالعزيز، وكتاب صحائف خالدة عن الملك سعود بن عبدالعزيز، وفيهما وثّق سير القيادتين بأسلوب يجمع بين السرد التاريخي والتحليل الفكري، مع إبراز القيم الأخلاقية والقيادية، وله كذلك كتاب (رجال بأنفسهم)، الذي تناول فيه نماذج إنسانية متميزة، مسلطًا الضوء على قيمة الاعتماد على النفس وتحمل المسؤولية. اعتدال ووسطية وفي مجال الفكر الإسلامي وقضايا العصر، ألّف إبراهيم الشورى -رحمه الله- كتاب (حقوق الإنسان كما نص عليها القرآن)، الذي بيّن فيه سبق الإسلام إلى تقرير حقوق الإنسان، وكتاب (اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية) بالاشتراك مع الشيخ عبدالله بن حسن آل الشيخ -رئيس القضاة-، وهو من المؤلفات العقدية التي تعكس اهتمامه بالدفاع عن منهج أهل السنة والجماعة، ويُعدّ هذا الكتاب من الإسهامات الفكرية المتميزة لشخصيتنا، حيث تناول فيه قضية حقوق الإنسان من منظور إسلامي خالص، وقد سعى من خلاله إلى الرد على الادعاءات التي تزعم أن حقوق الإنسان مفهوم غربي حديث، وأوضح إبراهيم الشورى أن الإسلام قرّر حقوق الإنسان الأساسية، مثل حق الحياة، وكرامة الإنسان، والعدل، والمساواة، والحرية المنضبطة بالقيم، كما أكّد أن الرؤية الإسلامية تقوم على التوازن بين الحقوق والواجبات، بما يحقق مصلحة الفرد والمجتمع، حيث اتسم منهج شخصيتنا بالاعتماد على القرآن الكريم والسنة النبوية بوصفهما المصدرين الأساسيين للفكر والتشريع، كما اتسم بالاعتدال والوسطية، والحرص على معالجة القضايا المعاصرة بروح إسلامية واعية، أمّا أسلوبه، فقد تميّز بالجزالة اللغوية، والوضوح في العرض، والتدرج في الأفكار، مع الاستشهاد بالنصوص الشرعية والأمثلة التاريخية، مما جعل كتاباته قريبة من القارئ ومؤثرة فيه. أمانة ومسؤولية وكتب إبراهيم الشورى -رحمه الله- الكثير من المقالات في الصحف المحلية، منها مجلة الإصلاح وهي مقالة عن تأسيس دار للحديث، ومقالة بعنوان: مهمة الصحافة، نُشرت في جريدة أم القرى، ويلاحظ أن كتاباته هادفة، أمّا في التعليم أو الشأن الاجتماعي والثقافي، فهو كاتب صحفي استعمل قلمه السيال فيما يفيد وينفع الشأن العام والخاص؛ لأن القلم أمانة ومسؤولية، فهو من هؤلاء المخلصين الصادقين مع أنفسهم ومع مجتمعهم. ووثقت القيادة العليا في شخصيتنا، بدايةً من الملك المؤسس الملك عبدالعزيز، والملك سعود والملك فيصل -رحمهم الله- لذلك عُين في أكثر من منصب قيادي، وكان يرتبط بعلاقة جيدة معهم ويبدي لهم كل ما من شأنه يصب في المصلحة العامة للوطن، وكان رحمه الله اجتماعياً بطبعه، وكان الوفاء هو ديدنه، فكان يزور أصدقائه القدامى ويتعاهدهم بالاتصال، ويحدثني حفيده أحمد بن محمد الشورى أن جده إذا زار الرياض يكون من برنامجه زيارة أصدقائه ومنهم الدكتور عبدالعزيز الخويطر، والسفير المؤرخ محمد العبيكان، وغيرهم. عطاء علمي توفي إبراهيم الشورى عام 1404ه الموافق 1984م، بعد حياة حافلة بالعطاء العلمي والتربوي، وقد خلّف إرثًا علميًا وفكريًا يتمثل في مؤلفاته، وفي الأثر الذي تركه في المؤسسات التعليمية والأجيال التي تتلمذت على يديه، وفي ختام هذا المقال، تتجلّى سيرة شخصيتنا نموذجًا مضيئًا للعالم والمربّي والمفكّر الذي أسهم بجهده وفكره في بناء الإنسان والمؤسسة في مرحلة تأسيسية من تاريخ المملكة، فقد جمع بين العمل التربوي والإداري والإعلامي، وبين التأليف الفكري والبحث العلمي، واضعًا علمه في خدمة الدين والوطن والمجتمع، ولقد عبّرت مسيرته عن وعيٍ مبكر بأهمية التعليم والثقافة في نهضة الأمم، وعن التزامٍ عميق بالقيم الإسلامية والوسطية الفكرية، مما جعل أثره ممتدًا في الأجيال والمؤسسات، وبذلك يبقى شخصيتنا أحد أعلام النهضة التعليمية والفكرية في المملكة، وسيرته شاهدًا على أن الإخلاص في العلم والعمل هو الطريق الأصدق لبناء الحضارة وخدمة الوطن، أتوجه بخالص الشكر لأحمد بن محمد الشورى على تزويدي بمعلومات وبعض الصور عن جدّه، كما تمت الاستفادة من كتاب تَتمّة الإعلام للزركلي لمؤلفه محمد خير رمضان يوسف. الشورى أسهم في نشر الثقافة الإسلامية المعتدلة إبراهيم الشورى يميناً في إحدى المناسبات -من حساب حمزة بصنوي في X» أحمد محمد الشورى ماذا تعني الهجرة بقلم إبراهيم الشورى كتاب العهد والميثاق في الإسلام لإبراهيم الشورى إعداد- صلاح الزامل