قد تبدو نصائح الأب في ظاهرها قاسية أو جافة، لكنها في حقيقتها كلمات تخرج من قلبٍ يتألم قبل أن ينطق. فالأب لا ينصح ليؤلم، ولا يوجّه ليقسو، بل لأنه يرى ما لا يراه أبناؤه، ويخشى عليهم مما لم يخوضوه بعد، حين يرفع الأب صوته أو يشدد في توجيهه، فإنه يفعل ذلك وهو يخاصم عاطفته، ويكتم حبه، ويقدّم الخبرة على المجاملة. فهو يدرك أن الطريق ليس مفروشًا بالطمأنينة، ولذلك يسابق الزمن ليحصّن أبناءه بما تعلّمه من التجربة، حتى وإن أُسيء فهمه. ومعظم الآباء مرّوا بتجارب قاسية، وتحديات صعبة، ومشاكل مؤلمة، بل وآلام تركت أثرها في أعماقهم، ولهذا لا تأتي نصائحهم من فراغ، وإنما من مخزون تجربة طويلة اختلط فيها التعب بالصبر، والخوف بالأمل، ورغم أن لكل جيل حياته ومتغيراته وظروفه المختلفة، إلا أن سلسلة الحياة تبقى متشابكة بين الآباء وأبنائهم؛ تتغير الأزمنة ولا يتغير جوهر العلاقة، ويبقى الحرص مسؤولية لا تزول، والخوف شعورًا لا يشيخ، وفي هذا المقال، يتوجه الحديث إلى الأبناء تحديدًا؛ ليتقبلوا آباءهم كما هم، وليدركوا أنهم يغلون عليهم أكثر من أنفسهم. فالآباء يتألمون بصمت، ولا يغمض لهم جفن إذا لمحوا الشقاء في عيون أبنائهم، أو شعروا بأنهم تاهوا في خضم الحياة وضجيجها. وكم من أبٍ ينام ودمعته على وسادته، رحمةً وشفقةً على أبنائه وهم يواجهون صخب الحياة ومصاعبها. دمعة لا يراها أحد، لكنها تختصر حبًا عظيمًا، ودعاءً صادقًا، وخوفًا لا ينقطع، ولا يظن الأبناء أن آباءهم يغفلون عن متابعتهم؛ فمتابعتهم ليست بالجسد وحده، بل بملامح الوجوه، ونظرات العيون، ونبرات الأصوات. يقرؤون أبناءهم دون سؤال، ويشعرون بهم دون حديث، فإن رأوا الفرح والسعادة على محياهم، اتسعت قلوبهم فرحًا، وإن رأوا غير ذلك، تثاقل القلب وضاق الصدر وتألموا بصمت. تلك هي الأبوة؛ حبٌ عميق لا يُعلن، وخوفٌ دائم لا ينتهي، وعطاءٌ صادق لا ينتظر مقابلًا . عبدالعزيز بن سليمان الحسين