الكتاب الذي صدر حديثاً بعنوان: «التعافي بالكتب» وهو من مختارات ترجمات الكاتب أحمد الزناتي أوحى لي بالكتابة عن التشافي بالقراءة، حيث إنها في جوهرها واحدة من أكثر النوافذ اتساعًا، تلك التي لا تُطل على العالم فقط، بل على النفس أيضًا. فحين نفتح كتابًا، لا نقرأ النص وحسب؛ بل نقرأ جزءًا من أنفسنا المختبئ بين السطور، كأن الكلمات مرآةٌ صغيرة، تلمع كلما اقتربنا منها، وتضيء طريقًا لم نكن نراه. القراءة ليست فعلًا ذهنيًا محضًا، بل تجربة روحية عميقة، نحن نلجأ إليها حين نحتاج إلى يدٍ لا تُرى، تربت على أكتافنا دون أن تسأل، أو توبّخ، أو تُحاكم. الكلمات تُنصت، وهذا وحده يمنح شعورًا أوليًا بالتخفف، ففي عالم سريع، مليء بالضجيج والمهام المتراكمة والخيبات الصغيرة، تُصبح القراءة مساحة صامتة، رحبة، نستعيد فيها اتزاننا الداخلي. التشافي بالقراءة لا يعني الهروب من الواقع، بل العودة إليه أكثر قوة. فبعض الكتب تُشبه جلسات التأمل؛ نصوص قصيرة، هادئة، تُعلّمنا كيف نواجه الألم دون أن نغلق الباب بوجهه. كتب أخرى تُعيد ترتيب الفوضى التي تعيش فينا، تُهذب مشاعرنا، وتذكّرنا بأن التجربة الإنسانية -مهما كانت قاسية- ليست خاصة بنا وحدنا؛ هناك من مرّ بها قبلنا، وكتب عنها، ونجا. وهذه المشاركة غير المرئية تصنع عزاءً كبيرًا: أن نفهم أننا لسنا وحدنا، وأن الضعف ليس عيبًا، وأن كل جرح -مهما ضخم- قابل للشفاء بالكلمة. القراءة أيضًا وسيلة للتنفيس، هناك كتب تُنفس عنا كما تفعل جلسة بكاء طويلة، رواية تُخرج ما علق في صدورنا، قصيدة تُحرّك ما تجمّد في الداخل، أو سطرٌ واحد يجعلنا نُدرك مشاعر لم نعرف كيف نسميها، وحين تنفرج تلك العقدة الصغيرة في الروح، نشعر بأن الحمل أخف، وأن الهواء صار أكثر نقاءً مما كان. ومع الوقت، يصبح الكتاب ملاذًا، صديقًا يعرفنا من غير أن نُعرّفه بأنفسنا. فكل صفحة تمنحنا مساحة للراحة، وكل فصل يبعدنا خطوة عن ضغوط الحياة التي لا تهدأ. بعض القراءات تُعيد بناءنا من الداخل، وبعضها يمنحنا شجاعة لطوي صفحة قديمة، أو فتح صفحة جديدة نخشاها، وهناك قراءات تنعش القلب، من روايات أو مقالات أو شعر، كلها تستدعي في دواخلنا أموراً متعلقة بنا وبإنسانيتنا.