كنتُ ذات يوم في إحدى محاضراتي بالجامعة أدرّسُ طلابي قصيدة ابن زيدون السينية الرقيقة التي مطلعها: «ما على ظنيَّ باسُ ... يجرَحُ الدّهرُ وياسو»، وهي قصيدة فريدة، أبدعها. والآس في المعاجم اللغوية -كما عند الخليل - هو: «شجرٌ ورقه العطر، الواحدة بالهاء»، وأما في الاصطلاح العلمي فهو: «نبتة مزهرة ومثمرة، بدأ البشر باستخدامها لأغراض عديدة منذ آلاف السنين، ولها مكانة خاصة في بعض الحضارات القديمة، مثل: الحضارة الإغريقية، كما يعدها البعض أحد أكثر النباتات التقليدية انتشارًا واستخداما على مر التاريخ»، ويتشكل الآس من شجيرات دائمة الخضرة، أو أشجار صغيرة، قد يصل ارتفاعها لقرابة 5 أمتار، وتستخدم أوراقها في الزيوت العطرية، وربما كانت لها استخدامات علاجية مفيدة، ومن هنا ندرك قيمتها في كونها ليست زهراً عطريًّا فحسب، بل هي نبات عطري، وعلاجي، وجمالي أيضًا؛ ولهذا راح الشعراء قديماً يتغنون بجمال الآس ونضارته، وطول بقائه ولطافته. وقد تفنّن الشعراء في استعمال الآس رمزاً لدوام العهد، وصفاء الود، وطول الأمد، وراحوا يقارنونه بالورد في جماله المؤقت الذي يتلاشى سريعاً؛ ولذلك قال العباس بن الأحنف (192ه): «وواللهِ ما شَبَّهتُ بالوردِ عَهْدَها ... إذا ما انقضى فيما تقولُ الأعاجمُ = ولكنني شبَّهتُه الآسَ دائماً ... وليس يدومُ الوردُ، والآسُ دائمُ»، ويقول أبو نواس (198ه) ضمن إحدى قصائده: «أبهى إذا مشَى من طاقة الآسِ»، ويقول ديك الجن الحمصي (236ه): «قل لهضيم الكشحِ ميّاسِ ... انتقضَ العهدُ من النّاسِ = يا طلعةَ الآسِ التي لم تَمِدْ ... إلا أَذَلَّتْ قُضُبَ الآسِ». ولفرط ولعهم بالآس في بهائه ونضارته، انجذب نحوه بعض البلاغيين، على نحو ما صنع أبو الحسن محمد بن أحمد بن محمد الحسني، المعروف بابن طباطبا العَلوي (322ه)، صاحب التصانيف البلاغية المعروفة، ك (عيار الشعر) وغيره، حيث رأيناه يقول في شعرٍ له – وإن كان ركيكاً في نظري - : «الآس فَردٌ بَديع من مَحاسنه ... ما مثله في مَعانيه بِمَوجود = يَبدو بِأَغصانِهِ خَضراء تَلبَسه ... كَأَلسُنِ الطَير تُشوى بِالسَفافيد». ووصل الشعراء في غاية ميلهم للآس إلى أن تحدثوا عن اتحاد أوراقه التي يطلقون عليها (رَامُشْنة)، وهي ذروة سنام الآس، ويظهر أنها لفظة فارسية، وهي على حد وصف البيروني (440ه) في كتابه (الجماهر في معرفة الجواهر): «ورقتا آس متحدتان إلى الوسط،متباينتان منه إلى الرأس»، وتتخذ لكمال الزينة، وبلوغ أقصى البهاء، وربما كانت شبيهة بالإكليل، ونحوه من أشكال الزينة العطرية؛ لذا قال الشاعر بكر بن النطاح الحنفي الذي عاش في القرن الثاني الهجري: «جئتك بالرامش رامشنة ... أطيب من رامشنة الآس». واستعمل العباس بن الأحنف أيضاً (رامشنة الآس)، إشارةً منهإلى بلوغ منزلة من الرضا والإعجاب، وذلك في قوله: «أيا سيّدةَ الناسِ ... لقد قطّعتِ أنفاسي = ويا ديباجة الحُسنٍ ... ويا رَامُشنَةَ الآسِ».