صدر حديثًا عن مؤسسة الانتشار العربي في بيروت عمل روائي جديد للشاعر والكاتب إبراهيم الوافي يحمل عنوان «من أحاديث عائشة – جدة 2009»، في نحو 200 صفحة، يتناول واحدة من أكثر الكوارث حضورًا في الذاكرة السعودية المعاصرة، كارثة سيولجدة، من زاوية إنسانية وفلسفية مغايرة، تمزج بين اليوميات الشخصية والتأمل الوجودي والقراءة النقدية للنص. تنهض الرواية على بنية سردية مزدوجة، تتقاطع فيها الأصوات وتتشابك فيها طبقات الحكي. فالنص الأساسي يأتي على هيئة مذكرات تكتبها فتاة تركية تُدعى عائشة مراد، اختارت أن تخاطب البحر بوصفه شاهدًا أبديًا ومرآةً للبوح، فجاءت كتابتها على شكل أحاديث موجهة إلى البحر، تروي فيها تفاصيل نجاتها، وخساراتها، وتحولاتها النفسية العميقة إثر الكارثة التي اجتاحت مدينة جدة عام 2009. ومن خلال هذه الأحاديث، لا تكتفي عائشة بسرد وقائع المأساة المادية، بل تمضي إلى ما هو أبعد، متأملةً معنى الفقد، وهشاشة المدن، وتأثيرات الفساد، وارتباك الإنسان حين ينهار الإيقاع المألوف للحياة فجأة. يتحول البحر في الرواية إلى مخاطَبٍ حيّ، وإلى رمز يتسع للأسئلة الكبرى حول القدر، والذاكرة، والنجاة، فيما تتشكل اللغة على نحو شعري كثيف، يوازن بين الاعتراف الشخصي والرؤيا الكونية. وتأخذ الرواية منحى جديدًا مع دخول شخصية أستاذ فلسفة يعثر صدفةً على هذه المذكرات بعد زمن من كتابتها. يفتتن الأستاذ بأسلوب عائشة، وبطاقة النص التأملية، فيبدأ بكتابة تعليقات فلسفية وهوامش تفسيرية ترافق المذكرات، لتتحول الرواية إلى حوار ضمني بين صوتين: صوت التجربة العارية، وصوت العقل التأملي الذي يحاول تفكيكها وفهم دلالاتها الأخلاقية والوجودية. هذا التداخل بين اليوميات الشخصية والقراءة الفلسفية يمنح العمل بعدًا معرفيًا لافتًا، ويخرجه من كونه شهادة عن كارثة طبيعية، إلى كونه نصًا عن أثر الكارثة في الوعي الإنساني، وعن الطريقة التي تعيد بها المآسي الكبرى تشكيل نظرتنا إلى الحياة، والمدينة، والذات. «من أحاديث عائشة - جدة 2009» رواية تتكئ على الذاكرة بوصفها فعلاً مقاومًا للنسيان، وتعيد طرح الأسئلة المؤجلة حول علاقتنا بالمكان، وبالطبيعة، وبما نعتقد أنه مستقر ودائم. وهي إضافة نوعية للمشهد الروائي العربي، تفتح بابًا جديدًا في كتابة الكارثة، لا بوصفها حدثًا عابرًا، بل بوصفها تجربة وجودية ممتدة في الزمن.