في شتاء نيويورك البارد عام 1925، وبين مقاهي المثقفين في مانهاتن، صدر أول عدد من مجلة النيويوركي أو "ذا نيويوركر"، على يد الصحفي "هارولد روس"، لتعلن منذ انطلاقتها أنها ليست مجرد مجلة تقليدية، بل نافذة مختلفة لفهم أعظم مدن العالم، وتسجيل نبضها، وقصّ حكايتها، والعالم من حولها. وبعد مرور قرن على نشأتها اليوم، لا تبدو «ذا نيويوركر» عجوزًا مُثقلة، بل تبدو كمن زاده الزمن ثباتاً في فلسفتها، وتجدداً في أدواتها، ورسّخ مكانتها كإحدى أنجح المجلات التقدمية في تاريخ الصحافة. تميّزت «ذا نيويوركر» منذ بدايتها بأنها لم تكن تخاطب الجميع؛ بل مجلة عرفت جمهورها بدقة، وهم من يهتم بالأدب ويقرأ بعمق، ويبحث عن تحليل يتجاوز السطح، ويستمتع بالحكاية المصاغة بعناية، كأنها سنفونية سردٍ طويل. كانت المجلة –ومازالت– تُشبه المدينة التي ولدتِ من رحمها، نيويورك الصاخبة ولكن العميقة، المزدحمة ولكن الراقية، المتقدمة لكن المتصالحة مع جذورها، وكانت مع كل عددٍ تضيف فصلًا جديدًا في تاريخ الأدب والصحافة الأميركية، فهي موطنُ كتّابٍ أعلام: جون تشيفر، جيمس بالدوين، تروما كابوتي، مالكولم غلادويل، وغيرهم ممن سطروا عبر صفحاتها. في زيارتي الأخيرة لنيويورك خصصت نهاراً كاملاً لزيارة المعرض الذي يحتفي بمرور قرن على صدورها، في مكتبة نيويورك العامة، التي احتضنت كتابها وصحافييها، لتشعر أنها لم تكن مجرد مجلة عابرة، بل مؤسسة ثقافية كبرى. منذ إصدارها الأول، اختارت «ذا نيويوركر» أن تكون مختلفة بصريًا كما هي مختلفة تحريرًا، بداية من غلافها الشهير الذي يحمل شخصية الرجل الأنيق بنظارته الإسطوانية، والتي لم يكن مجرد رسمة، بل بيانًا بصريًا، بأنها مجلة النخبة المتفحّصة والسخرية الذكية، وعلى مدى مئة عام، حافظت على بصمتها البصرية، بداية من الخطوط الرفيعة والأنيقة، إلى الرسوم الكاريكاتيرية، إلى الأغلفة التي تحوّلت لاحقًا إلى مدرسة فنية قائمة بذاتها، وأمست أعداد المجلة تُجمع ويُحتفظ بها كقطع فنية، وتُعرض أغلفتها في معارض متاحف الفنون الحديثة. وقفت أمام لوحات مضيئة من التاريخ: مخطوطات لأشهر القصص، ومنها عدد قنبلة "هيروشيما"، التي احتوت تحقيق "جون هيرسي"، وهي سردٌ مؤلم لتجربة الناجين من القنبلة النووية، أو غلاف جائزة بوليتزر الذي وثّق أزمة كورونا، والحقيقة يصعب حصر أعظم ما غطّته «ذا نيويوركر»، بيد أن هناك أعمالًا صحفية صارت جزءًا من الذاكرة الشعبية، ومنها قصة "الدم البارد"، وهي التحقيق الاستقصائي عن جريمة قتل كانساس، وتحوّلت لاحقاً إلى كتاب وفيلم سينمائي، ومقالات "جميس بالدوين"، التي عززت الوعي الوطني بحقوق السود، وأكدت موقع المجلة كمنصة للفكر التقدمي، ومؤخراً قصة "رونان فارو" التي فجّرت قضية "هارفي واينستين"، وهو التحقيق الذي غيّر عالم هوليوود، وفتح الباب لحركة "مي تو"، وحصد جوائز بوليتزر. وبالطبع لا أنسى مقالات كاتبي المفضل "مالكولم غلادويل"، الذي حوّل الظواهر الاجتماعية إلى قصص ممتعة وملهمة، ثم نشرت في كتب حققت أعلى الأرقام، وهناك آلاف القصص التي أعادت تعريف معنى "المقال الصحفي الطويل"، ورفعت سقف التوقعات من المجلة. حاولت خلال مروري في المعرض واطلاعي على مقابلات ووثائقيات عن المجلة، أن أعرف ما الذي يجعل "ذا نيويوركر" مميزة؟ ووجدت أن احترامها للقارئ كان السبب الأول، فالمجلة لم تنشر يومًا مادة مثيرة لجذب الاهتمام أو الإعلانات، بل قدمت نصوصاً جادة ولكن جذابة، وأعلت من قيمة "التحرير"، إذ اشتهرت بصرامة التحرير، حيث يخضع كل مقال لأسابيع من المراجعة، فكرة وهيكلاً ولغةً، ناهيك عن الفحص الدقيق للحقائق، ثم قدرتها على المزج بين الأدب والصحافة، دون إغفال التزامها بصمة بصرية لا تخطئها العين. وبعد مئة عام من ميلادها.. تبدو "ذا نيويوركر" فتيّة وجامحة، وكأنما بدأت للتو! لقد أثبتت أن الكلمة مازالت تصنع التاريخ، وأن سرد الحكايات العميقة قادرٌ على النجاة من أي تهديد، مهما ازدحمت الشاشات والمؤثرات.