الخطأ إن كان فيما يتعلق بحقّ الله تعالى فكل حقوقه عظيمة، وأيّ انتهاك لنهيه فهو شنيع، وإن كان في حقوق الناس فكم من كلمة خفيفة على لسان قائلها، ثقيلة على نفس من خوطب بها، تجرح المشاعر، وتنشر الكراهية، فكيف يُستهان بها؟! الإنسان مُعرَّضٌ لصدور الأخطاء منه، سواء في ذلك التقصير فيما يجب عليه أن يأتيَ به، أو ارتكاب ما لا يسوغ له أن يرتكبه، ويقع منه ذلك فيما يتعلق بأوامرِ ونواهِي ربِّه سبحانه وتعالى، وفيما يتعلّق بحقوق الآخرين من الأقارب ومن يتعامل معهم، لكن مجرّدُ صدور الخطأ منه ليس نهايةَ المطاف، بل تبقى له فرصةُ التعامل مع خطئه، ومعالجته بالطريقة المناسبة، ومن فضلِ الله تعالى على عبادِه أن جعل أخطاءَهم في حقوقِه قابلةً لمحوها بالتّوبةِ، وجعلَ التائبَ من خيرة الناسِ، كما يدلُّ عليه حديثُ أَنَسٍ رضي الله تعالى عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَليهِ وسَلمَ: (كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ)، أخرجه ابن ماجه، وحسّنه الألبانيُّ، وأما الأخطاء المتعلقةُ بحقوق الآخرين فإنَّ لها أنواعاً من المعالجاتِ تُتيحُ للمخطئ أن يتخلّصَ من تبعاتِها، وأن يتخطّى العثراتِ التي تمثِّلها، وعلى المخطئ أن يبحث عن الطرقِ السليمةِ لمعالجة خطئه، وأن يتعامل مع ذلك بحكمةٍ وعقلانيّةٍ وإنصافٍ، ولي مع التعامل مع الأخطاء وقفاتٌ: الأولى: من أهمِّ ما يُعالَجُ به الخطأ عدم استثقال الاعتراف به، فإن كان متعلقاً بحقوقِ الله فالتوبةُ إلى الله تعالى شرفٌ لا يسوغُ استثقاله، وإن كان متعلقاً بحقوق الآخرين فمن شأنِ العاقلِ أن يدرك أن الأثمانَ التي يدفعها لمعالجة ذلك الخطأ تعودُ عليه بالمنافعِ الراجحةِ، وهذا الإدراك يُعينه على أن تطيبَ نفسُه بما يصنع من ذلك، فلا يستثقلُ معالجةَ خطئه وإن كانت المعالجةُ ثقيلةً على نفسِه، أو مكلفةً له ماديّاً، فذلك الثقلُ مرحليٌّ ينزاحُ بسهولةٍ، وإذا أصرَّ على خطئه تحمَّلَ تَبِعَاتٍ باهظةَ الكُلفةِ، فكم أهدر التهاونُ بالخطأ صداقةً لا تقدّرُ بثمنٍ، تعاقدت عليها القلوب عقوداً من الزّمن، ولو سمحت نفسُ المخطئِ ببعضِ كلماتِ اعتذارٍ واعترافٍ بالخطأ لعادت الوصلةُ إلى مسارِها الطبيعيِّ، وكم من بيتٍ عمره الزوجانِ بالسعادةِ، وسادتْ أجواءَه الرأفةُ والرحمةُ كما ينبغي، فإذا بالتهاونِ بالأخطاءِ يعصف به بلا مبرِّرٍ، ولو تشجّع المخطئ وتعامل مع خطئه بالحكمةِ والإنصاف لتمَّ اجتيازُ الإشكالِ بدون أي ضررٍ، ومن التهاونِ بالخطأ محاولةُ تبريرِه بلا أيِّ سببٍ منطقيٍّ، والنّبشُ في الماضي؛ ليجدَ المخطئ أخطاءً أخرى لصاحبه يُقابلُ بينها وبين خطئه، واستفزاز المظلومِ لتصدر عنه ردةُ فعلٍ دفاعيّةٌ يعتدُّ بها المخطئُ على أنّها مظلمةٌ وُجِّهتْ إليهِ، أو محاولةُ إلصاقِ الخطأ بالطرف البريء منه كما قيل في المثل العربي القديم: (رَمَتْني بدائها وَانْسَلَّتْ)، وكل هذا هروبٌ من تحمُّلِ المسؤوليّة، وتوسيعٌ لفجوةٍ يمكن أن تنسدَّ بكلِّ سهولةٍ. الثانية: من التعامل المناسب مع الخطأ إدراك أن الأخطاء عبارةٌ عن خروقٍ إذا تسبَّبت فيها يدٌ وجبَ عليها أن ترقِّعَها، وأن الرهانَ على الاحتيال للإفلاتِ منها رهانٌ خاسرٌ، فإذا كان الخطأ تفريطاً في جنبِ الله تعالى فأدلةُ الشرع متضافرةٌ على وجوب التوبةِ والإنابة من الخطايا، ومنع الإصرار على الصغائر، وإن كان في حقِّ الآخرين، فالدَّواعي تتوفّر للمشاحّة فيها، ومواجهة من يفرِّط فيها، أو يحوم حول حرماتِها، ولن يزالَ منتهكها هدفاً للخصوماتِ، وعُرضةً للملامِ وإساءةِ الظنِّ به ما لم يُعالج ذلك بما يُرضي المظلومَ، ثم إن المخطئ على الآخرين إن تهيَّأ له الإفلاتُ في الدنيا فالحسابُ له بالمرصادِ يومَ القيامةِ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟» قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: «إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ»، أخرجه مسلمٌ. الثالثة: من أدواتِ التعامل مع الأخطاء عدم تكرارها؛ فالحياةُ تجاربُ، وقد يكون الإنسانُ مجتهداً في تصرُّفٍ معيّنٍ يمكن أن يضرّ علاقتَه بصاحبه، ويمكن ألا تتضرَّرَ به، فإذا بدا له أنها تتضرّر به، فهذا درسٌ يجب أن يتعلّم منه تجنُّبَ مثلِ هذا التصرُّفِ في المستقبلِ، والنفوسُ ميَّالةٌ -في الغالب- إلى التساهل مع الغلطةِ الأولى، واستنكار الغلطةِ المتكرِّرة؛ لما تدلُّ عليه من قلّةِ المبالاةِ، والاستخفافِ بمشاعرِ الآخرين، والاستهانةِ بالخطأ الحاصل، ولا شكَّ أن أخطر ما يرتكبُه المخطئ بعد خطئه أن يستهين به، وأن يراه طفيفاً لا وزنَ له، فيشجعه ذلك على معاودته، وهذا خطأ ثانٍ؛ فالخطأ إن كان فيما يتعلق بحقِّ اللهِ تعالى فكل حقوقِه عظيمةٌ، وأيُّ انتهاكٍ لنهيِه فهو شنيعٌ، وإن كانَ في حقوق الناسِ فكم من كلمةٍ خفيفةٍ على لسانِ قائلها، ثقيلةٍ على نفسِ من خوطبَ بها، تجرح المشاعرَ، وتنشر الكراهية، فكيف يُستهانُ بها؟!