في مدينة تتغيّر "في لمح البصر"، يظل هناك ضوء لا يخفت، ضوء يتجاوز الزمن، ويعبر من جيل إلى جيل، هذا الضوء تحديدًا هو ما يُحضره احتفال نور الرياض 2025 إلى جمهوره هذا العام، حين يفتح أبوابه على أعمال فنانين من العالم، وفي القلب منهم فنانة سعودية رحلت بجسدها، وبقي فنها شاهدًا على ذاكرة وطن: الفنانة القديرة صفية بن زقر. تعود صفية عبر عملها "مشاهد من حفل زفاف" المعروض في مركز الملك عبدالعزيز التاريخي، لكن حضورها يتجاوز العمل نفسه؛ فهو امتداد لمسيرتها الطويلة التي كرّستها لتوثيق المجتمع السعودي وتراثه البصري، وترجمة ملامح الحياة اليومية في زمن لم تكن الصورة فيه متاحة بوفرة كما اليوم. كانت صفية بن زقر التي لُقّبت ب"أم الفن السعودي" واحدة من أوائل الذين أدركوا أن الذاكرة تنتهي حين لا تُروى، وأن الفن ليس ترفًا، بل "حفظٌ للوقت" بطريقتها. من سانت مارتن إلى دارة صفية... ثم إلى نور الرياض على مدى أكثر من ستة عقود، كرّست صفية بن زقر حياتها لمشروع ثقافي وفني وطني بامتياز، بدأت رحلتها التعليمية في مدرسة سانت مارتن للفنون في لندن، قبل أن تعود إلى المملكة لتؤسس عام 1995 مركزًا ثقافيًا رائدًا هو: دارة صفية بن زقر، التي تحوّلت لاحقًا إلى مرجع فريد يوثّق ملامح المجتمع السعودي وتحولاته الاجتماعية كما عكستها ريشة الفنانة وإحساسها الدقيق بالتفاصيل. حصلت على وسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الأولى عام 2017، وشاركت في عشرات المعارض الإقليمية والدولية، قبل أن ترحل عام 2024 تاركة إرثًا لا يُقاس بعدد اللوحات، بل بحجم الشرارة التي أوقدتها في أجيال من الفنانين والفنانات. واليوم، يعود هذا الإرث ليُعرض ضمن احتفال نور الرياض 2025، في عمل يلتقي فيه الضوء مع الذاكرة، ويعيد قراءة قصة اجتماعية عميقة بعيون حديثة. "مشاهد من حفل زفاف": حين تصبح العادات ضوءًا العمل الذي يُعرض هذا العام هو أحد أهم أعمال بن زقر، عنوانه "مشاهد من حفل زفاف" عمل يُقدّم من خلال نص بصري لطقوس مجتمع، وملامح نساء، وأقمشة، وحركات، ولحظات فرح كانت جزءًا من البيئة الاجتماعية في مناطق المملكة. وضمن سياق الاحتفال الذي يقوم على الفن الضوئي والتجارب الغامرة، يأخذ العمل بعدًا جديدًا؛ الضوء هنا لا يُستخدم فقط كعنصر جمالي، بل كأداة لإعادة إحياء الذاكرة، وإعادة تقديم التراث ضمن تجربة معاصرة، مُفعمة بالحنين والبصمة الإنسانية التي ميّزت أعمال صفية طوال حياتها. جسر بين جيلين.. ورسالة تُكمِلها الرياض ما يميز حضور صفية هذا العام أنه ليس مجرد "عرض" لعمل فني، بل دعوة صامتة لاستكمال مشروعها، فاحتفال نور الرياض تحت شعار "في لمح البصر" يحتفي بتحولات المدينة عبر الضوء، وبالتقاء الماضي بالحاضر. وفي عمل صفية، يبدو الماضي حاضرًا بالكامل، ليس بوصفه ذكرى، بل كجزء من الهوية الثقافية التي تستمر في تشكيل الفن السعودي اليوم. وبين محطات القطار الحديثة، والمواقع التاريخية في قلب الرياض، يأتي عمل صفية ليقول إن الضوء لا ينتمي للحاضر وحده، وأن فنانة سعودية بدأت مشروعها قبل أكثر من نصف قرن، ما زالت رؤيتها قادرة على التفاعل مع تقنيات عصرنا، ومع جزء أساسي من أهداف الرياض آرت المتمثل في حفظ التراث وتمكين الثقافة بوصفها أسلوب حياة. غائبة بالجسد.. حاضرة بالظل والضوء بين عشرات الأعمال الدولية والتركيبات الرقمية الحديثة، يقف عمل صفية بن زقر كأنّه يربط الاحتفال بجذوره، مذكرًا الزوار بأن الرياض لا تتغيّر فقط باتجاه المستقبل، بل تحمل تاريخًا بصريًا طويلًا يستحق أن يُروى، وأن يُعرض، وأن يُعاد اكتشافه. رحلت صفية، لكن حضورها هذا العام في نور الرياض يبدو وكأنه تكريم فنيّ يليق بمكانتها، واستمرار لرسالة بدأت بريشة، ويكملها النور.