في صناعة المعارض الفنية تتشابك ثلاثة أدوار رئيسة غالباً ما تختلط على الناس، القيّم الفني (Curator)، والمدير الفني (Art Director)، ومصمم المعارض (Exhibition Designer)، كل دور منها له مسؤوليات محددة وخبرة متخصصة تُسهم في نجاح المعرض. إساءة فهم الأدوار دون اعتبار لماهية اختلاف العمل بينها يؤدي إلى خلط القرارات ولخبطة جداول العمل. وبالمقابل، فهم هذه الأدوار وكيفية تكاملها يحوّل الفكرة إلى تجربة بصرية متكاملة تترك أثراً إيجابياً في الزوّار. فما طبيعة عمل كل واحد منهم؟ وكيف يتكاملون في مشروعٍ واحد؟ ولماذا يحدث الخلط أصلاً؟ يعتبر القيّم الفني (Curator) هو صاحب الرؤية والسرد، حيث يبتكر أو يتبنّى الفكرة ويحدد إطارها البحثي، وخطابها الجمالي والإيديولوجي، والسؤال الرئيس للمعرض، ويختار الفنانين وينتقي الأعمال الفنية ويراسلهم شخصياً ويربطها بسردية واحدة، ويراقب الإنتاج، ويتابع عملية المعرض بأكملها تماماً. يكتب النصوص المصاحبة للمعرض كالنص الجداري والكتالوج، ويصوغ «القصة» أو التجربة المعرفية التي يخرج بها الزائر من المعرض، ويرتب الأعمال الفنية والمجسمات لضمان الانسجام والحوار، ويكتب أحياناً للكتالوج مقالات تحليلية تعكس فكر المؤسسة واتجاهها الفني. باختصار لو افترضنا أنّ المعرض كتاباً فالقيّم الفني هو «المحرر العام» الذي يختار فصوله ويؤلف محتواه. في بينالي الشارقة 15: «التفكير تاريخياً في الحاضر» (Sharjah Biennial 15: Thinking Historically in the Present) الذي أشرفت عليه القيّمة الفنية حور القاسمي عام 2023، ظهرت بوضوح مسؤولية القيّم في صياغة السردية الفكرية للمعرض. فقد جمع البينالي أكثر من 150 فناناً من أنحاء العالم لبحث العلاقة بين التاريخ المعاصر والموروث الثقافي. عملت القاسمي على تطوير فكرة تربط بين الذاكرة و المستقبل، ونسّقت الأعمال ضمن سياق فكري موحد، وكتبت نصوصاً تحليلية في الكتالوج تربط بين الفضاء المعماري والمعنى. هذا المثال الواقعي يوضح كيف يُكوّن القيّم الفني «القصة» التي يُبنى عليها العمل الجماعي بأكمله. أما المدير الفني (Art Director) فيتعلق دوره ب»التصميم المرئي» أو «تصميم الهوية» العام للمشروع، وليس بالضرورة أن يكون المشروع معرضاً فنياً. دوره الأساسي هو الإشراف على الهوية البصرية للمشروع كالألوان والإضاءة والديكور والتصميم الطباعي وطريقة عرض المواد الرقمية والفيزيائية. كما يركز دوره على الجماليات والأسلوب البصري وليس على المضمون الفني نفسه. بعبارة أخرى، يركز دور المدير الفني على تصميم الهوية البصرية للمعرض من الملصقات إلى اللافتات، ويختار نوع الإضاءة التي تبرز الأعمال المعروضة، ويحتاج لرؤية إخراجية تتناسب مع نوع الأعمال المعروضة. بينما يقوم مصمم المعارض (Exhibition Designer) بدور المهندس أو «المصمم المكاني» للعرض، حيث تكون مسؤوليته الرئيسية تصميم الفراغ المادي الفعلي للمعرض كالجدران وأماكن الإضاءة وتدفق الزوار وترتيب الأعمال. ويركز على «التجربة المكانية»، ومسار حركة الجمهور داخل المعرض. بعبارة اخرى، يحدد مكان كل لوحة أو مجسّم وزوايا المشاهدة لتخدم السردية التي وضعها القيّم الفني. نجاح أي معرض فني يعتمد على التنسيق السلس بين هذه الأدوار الثلاثة. يبدأ المشروع بالقيّم الفني الذي يضع الفكرة والسردية الفنية، ثم يأتي دور المدير الفني لترجمة هذه الفكرة إلى هوية بصرية متسقة عبر جميع عناصر المعرض، وأخيراً يقوم مصمم المعرض بتحويل كل ذلك إلى تجربة مكانية ملموسة، ورغم وضوح كل دور، إلا أن هناك مناطق تداخل طبيعية. فالقيّم الفني قد يكون له رأي في الإضاءة إذا كانت تؤثر على قراءة العمل الفني، والمدير الفني قد يتدخل في ترتيب الأعمال إذا أثّر ذلك على الهوية البصرية، ومصمم المعرض قد يقترح تعديلات في السردية إذا كانت المساحة لا تسمح بالتنفيذ المثالي. التواصل المستمر بين الثلاثة هو مفتاح نجاح المعرض، بمعنى أن عقد الاجتماعات الدورية بينهم يضمن أن كل قرار يخدم الرؤية العامة للمعرض. القيّم الفني يحتاج معرفة عميقة بتاريخ الفن ونظرياته، ومهارات بحثية وكتابية وأكاديمية، وشبكة علاقات مع الفنانين. المدير الفني يحتاج خبرة في التصميم الجرافيكي والطباعة، وفهماً عميقأ للألوان والإضاءة. مصمم المعرض يحتاج خلفية في الهندسة المعمارية أو التصميم الداخلي، وفهماً لديناميكيات الحركة في الفراغ، واتقان برامج التصميم ثلاثي الأبعاد. في السنوات الأخيرة بدأت بعض المؤسسات و الشركات الثقافية في العالم العربي تخلط بين هذه الأدوار. فتُعلن عن وظائف تحت مسمى «مدير إبداعي» تطلب منه إبتكار المفهوم الفني وتصميم الفراغ للمعرض في نفس الوقت! أو تستخدم مصطلحات مثل: «Storytelling» و»Creative Proposal» كوصف لمهام القيّم الفني! هذا الخلط ناتج عن استعارة مصطلحات من سوق الإعلانات وسوق الإنتاج التجاري دون تكييفها للمجال الفني البصري، فيُطلب من شخص واحد أن يكون قيّماً ومصمماً ومخرجاً بصرياً في الوقت نفسه. حدث ذلك في بعض المهرجانات الفنية عندما وُظف «Creative Curator» لجميع مهام الإشراف الفني والتصميم والإنتاج، ثم اضطر القائمون على المهرجان لتعديل المسمى إلى «Creative Producer» وفصل المهام عن بعضها لضمان جودة العمل. وأحياناً تَطلب بعض المؤسسات والشركات الثقافية في العالم العربي «سينوغراف» ليقوم بكل الأدوار! ومن المعلوم أن ال Scenography أو ال «سينوغرافيا» هي فن تصميم الفراغ المسرحي، بمعنى تصميم كل ما يراه الجمهور على خشبة المسرح من ديكور وإضاءة وأزياء ومكياج ومؤثرات بصرية وحركة الممثلين داخل المشهد. بعبارة أخرى، السينوغرافيا تُبنى على «مشهد تمثيلي» و»جمهور متفرج» بينما المعرض الفني يعتمد على «تفاعل الزائر الفردي» دون حبكة درامية أو تمثيل. واستخدام ال»سينوغراف» هنا يُخرِج المعرض من مجاله الفني إلى الأداء البصري ، وذلك لا يخدم جوهر الأعمال أوالمعارض الفنية. في العالم العربي، تواجه هذه الأدوار- «القيّم الفني» و»المدير الفني» و»مصمم المعرض»- تحديات خاصة، أبرزها قِلّة التخصصات الأكاديمية في إدارة وتنظيم المعارض، وندرة الكفاءات المتخصصة، مما يدفع شخصاً واحداً لأداء مهام متعددة. ومع توسّع المشهد الثقافي وافتتاح مؤسسات جديدة، كبينالي الفنون الإسلامية والمتحف السعودي للفن المعاصر في جاكس، تتزايد الحاجة إلى فهمٍ دقيقٍ للأدوار الثلاث واحترام التخصص. إن فهم الفروقات الدقيقة بين أدوار «القيّم الفني» و»المدير الفني» و»مصمم المعرض» أساس يُبنى عليه نجاح أي معرض فني. القيّم يروي القصة، والمدير الفني يصمم مظهرها، ومصمم المعرض يجعلها تجربة محسوسة. بهذا تتكامل الجهود، وتصبح هناك لغة مشتركة تُقسّم المسؤليات وتوحّد الهدف بأن يخرج الزائر بحكاية واضحة وتجربة معرض فني لا تُنسى.