مما يُفترض أن الإعلام (السياسي) مرآةٌ تعكس الحقيقة، غير أنه في واقع الأمر قد يتحوّل في كثيرٍ من الأحيان إلى أداة لإخفائها أو تشويهها بما يخدم مصالح القوى المُهيمنة سياسيًّا واقتصاديًّا. ومنذ مطلع الألفية الجديدة، أخذت ظاهرة تغييب "الحقائق الكبرى" في الاتساع، لا نتيجة نُدرة في المعلومات، بل بفعل منظومة ضغط متشابكة تمارسها الحكومات والشركات الكبرى وأصحاب النفوذ المالي والإعلامي الذين يتحكّمون في السرديات ويُعيدون تشكيل وعي الجماهير وفق ما يُناسب مصالحهم. وقد برز هذا الانحراف بوضوح في مراحل تبرير الحروب، حين أصبح الإعلام شريكًا في صناعة المبرّرات لا في كشفها. ويُعدّ غزو العراق عام 2003 أبرز مثال على ذلك، إذ تبنّت مؤسسات إعلامية كبرى الرواية الأميركية حول "أسلحة الدمار الشامل" التي روّجها الرئيس الأميركي آنذاك جورج بوش الابن ووزير خارجيته كولن باول، الذي كرّر عبارة "أسلحة الدمار الشامل" 17 مرة في خطابه الشهير أمام الأممالمتحدة. وعلى الرغم من أن لجان التحقيق اللاحقة كشفت زيف هذه الروايات بالكامل، لم يعتذر أحد، ولم تُحاسَب وسيلة إعلام واحدة على تضليل أسهم في مقتل مئات الآلاف وتشريد الملايين وتدمير مقدّرات دولة برُمّتها. ويتكرّر المشهد في ملفات أخرى، كالتغطيات السطحية لانتهاكات معتقل غوانتانامو الذي اُفتُتح عام 2002 واحتُجز فيه مئات الأبرياء دون محاكمة. وكذلك كان الحال فيما كشفته لاحقًا تسريبات إدوارد سنودن عام 2013 أو كشف "أوراق باندورا (2021)"، حيث اكتفى الإعلام الغربي بإشارات خجولة لا تمسّ جوهر القضايا وآثارها. ويتجاوز تغييب الحقائق ميدان الحروب إلى المصالح الاقتصادية الكبرى التي تستغلّها الشركات على حساب الشعوب. ففي العقد الأول من الألفية الثانية، جرى التعتيم مثلًا على فضائح خصخصة المياه التي قادتها شركات كبرى في دول نامية، الذي رفع أسعار المياه بمعدّلات فاحشة، وأشعل احتجاجات و"حروب مياه" أودت بحياة الآلاف. ولأن الإعلام يرتبط بعقود إعلانية مع تلك الشركات، فقد قلّل من شأن الكارثة، وصوّرها إصلاحًا اقتصاديًّا، دون كبير اعتبار لحرمان ملايين البشر من حقّهم في الماء النظيف. وفي عام 2024، بلغت الرقابة العسكرية الإسرائيلية ذروتها في الأراضي الفلسطينية المحتلّة، حيث مُنع نشر أكثر من 1600 مادة صحفية، وعُدّل أكثر من 6000 مادة أخرى، كما اعتُقل عشرات الصحفيين أو قُتلوا بدم بارد خلال تغطيتهم الميدانية. وقد فعّلت سلطات الاحتلال هذا التحكّم الصارم لخدمة السردية الإسرائيلية الرسمية، التي تُوصف "المناطق المحتلة" أحيانًا ب"المناطق المُدارة" أو "المُتنازع عليها"، في محاولة لطمس واقع الاحتلال المستمر لعقود. وفي عام 2025، يتأكّد اتساع دائرة التعتيم عالميًّا؛ إذ أظهرت تقارير "مراسلون بلا حدود" أن أكثر من نصف سكّان العالم يعيشون اليوم في أجواء تُصنّف حرّية الصحافة فيها بأنها "خطرة جدًّا". ولم يتوقّف الأمر عند الرقابة الصريحة، بل امتد إلى أشكال جديدة من التحكّم، ومن أبرزها "الرّقابة الناعمة" التي تمارسها التقنيات الذكية ونماذج الذكاء الاصطناعي عبر خوارزميات تُوجّه ما يُعرض وما يُخفى، فتُقدّم الرواية المصنّعة على أنها الأكثر مصداقية، وتُدفن الروايات الأخرى في زوايا النسيان. إن غياب الحقائق الكبرى في الإعلام لا يعود إلى نقص في المعلومات أو عجز مهني، بل إلى تضافر أربع قوى رئيسة: المال الذي يشتري الخطاب، والسلطة التي تفرض الرقابة، والاقتصاد الإعلامي المأزوم، ثم يأتي (الآن) الذكاء الاصطناعي الذي جعل التوجيه أكثر دقّة وأقلّ وضوحًا. وما هو مثير للقلق أن هذه المنظومة تُفرز ثلاث نتائج شديدة الخطر: إفلات المجرمين من المحاسبة، واستمرار الأزمات التي كان يمكن وقفها، واهتزاز ثقة الجماهير في مؤسساتها الإعلامية. والإشكال العظيم هنا أن وسائل الإعلام تعتمد في معظم تمويلها على المُعلِن السياسي أو التجاري، مما يُسهّل أن تُستدرَج بسهولة إلى الصمت أو التبرير. ومحصلة ذلك كله؛ أن الإعلام حين يفقد بوصلته الأخلاقية، يصبح جزءًا من الأزمات لا وسيلة لحلّها، ويتحوّل من مرآة للحقيقة إلى ستار يحجبها. * قال ومضى: لا أعرف الحقيقة.. ولكني أميّز التضليل جيّدًا.