لا تبدو قصة العِقْد ل»غي دو موباسان» مجرّدَ حكاية، بل إنّها حياة الإنسان، يذهب عمره هباءً بحثًا عن ما لا يبرق إلا في أوهامه.. كانت «ماتيلد لوزيل» زوجة جميلة الملامح غير أنّها فقيرة الحظ، امرأةً ذات حسٍّ مفرطٍ في المُختلِف، تشعر في أعماقها أنّها خُلقت من طينة أُخرى، وكأنّ القدر خانه ذوقُه حين ألقى بها في بيتٍ متواضعٍ مع زوجٍ بسيطٍ يعمل موظفًا في إحدى الوزارت. كانت تعيش في بيتٍ صغير ضيّق، لكنّ خيالها كان يسكن قصرًا فارهًا وكأنها أميرة في حكايةٍ أضاعتها الصُّدفة، لم تكن تكره الفقر فحسب، بل كانت تشعر أنه إهانة شخصية لذاتها، فما من لقاءٍ بصديقةٍ غنيّة إلا وهو مِخلبٌ ينكُثُ جُرحًا قديمًا لم يندمل في كبريائها.. ذات مساء وحين عاد زوجها إلى البيت مُبتهجًا على غير العادة.. كان يحمل بطاقة دعوة إلى حفلٍ كبيرٍ تُقيمه الوزارة، اعتقد أنّه يجلب معه مفاتيح سعادتها، لكنّها نظرت إلى البطاقة بامتعاضٍ لم تحرص على إخفائه.. قالت في ضيق: «أيّ ثوبٍ يا تُرى أرتدي؟ وأيّ مجوهراتٍ تليق بي بين نساءٍ تتدلّى على صدورهن الماسات؟» لم تكن تملك سوى ثوبٍ بسيط، ولم يكن يملك سوى طيبة فقير، ولأنّ الحبَّ كان أقوى من المنطق قرّر أن يقتطع من مدّخراته ليهبها ثوبًا فاخرًا، ومع ذلك بقيت حزينة، فالفراغ الذي يحتلّ عُنقها بدا لها غاشمًا كما هو شعور فتنتها. قال لها زوجها وهو يُحاول تضميد جرحها: «ضعي وردة فهي أجمل من الألماس، أو أبدي عظمتي ترقوتك الجميلتين اللتين هما أجمل من عقود الدنيا قاطبة»، إلا أنّها ردّت بحسرةٍ تليق بمأساة أنثى: «لا شيء أكثر إهانة من الظهور بمظهر الفقراء بين الأغنياء». قرّرتْ أن تُنقذ عُنقها بالذهاب إلى صديقتها الغنية «مدام فورستييه»، وتستعير منها عِقدًا من الألماس، عِقدًا بدا كضوء من عالمٍ آخر.. عقدًا يبرق كما لم يبرق شيءٌ في حياتها قط. وفي تلك الليلة رقصت كما ترقص الزنابق في حقل يستنشق النسيم، وابتسمت كما يبتسم الليل لنورٍ يسكبه القمر كنديم. كانت أجمل نساء الحفل على الإطلاق.. تُمطرها الأنظار إعجابًا، وتُومض في عيون الحاضرين إبهارًا، وللمرة الأولى شعرتْ أنها وجدت نفسها حقًّا، وأنّ الكون قد اعترف أخيرًا بجمالها، وأنّها ولو لليلةٍ واحدة صارت المرأة التي لطالما حلمت بها. غير أنّ الفجر أطلّ عليها قاسيًا عندما سحب البساط من تحت قدميها، فحينما عادت إلى بيتها ونظرت في المرآة لترى آخر ما تبقّى من مجدها إذ بها تصرخ: «العقد... ضاع!». ليبدأ فصلٌ جديد من المأساة.. لقد انهار الحلم، وانقلب البريق رمادًا.. أخذا يبحثان عنه في الطرقات، وفي عربات الأجرة، وفي مكاتب الشرطة... ولم يجداه، لم يكن أمامهما بُدٌ من استبداله بآخر يُشبهه، فاضطرّ الزوج إلى بيع كلّ ما يملك ويقترض ما لا يُطيق ليتورّط في ديونٍ لا تُحصى كي يشتري عِقداً مُماثلاً ثمنه 63 ألف فرانك. تحوّلت المرأة الرقيقة إلى عاملةٍ كادحة في بيتها، فكانت تستيقظ قبل الشمس لتغسل الثياب وتنظّف الأواني وتفاوض الباعة على القروش.. تمكّنت من دفع الدين بعد عشر سنواتٍ من العذاب والسُّخرة والشيخوخة المبكرة وهي تلعن عِقدًا لم يعد يلمع إلا في ذاكرتها. وذات يوم التقت صدفةً بصديقتها «مدام فورستييه» في شارع الشانزليزيه، كانت الصديقة كما هي أنيقة وجميلة ومشرقة، أما «ماتيلد» فكانت وجهًا آخر للشقاء شاحبًا ومُرهقًا وقديمًا.. اقتربت منها بعزّةٍ تقبع فيها ثُمالةُ المرارة وقالت: «لقد دفعتُ ثمن عِقدك الذي فقدتُه... فكلّفني عشر سنواتٍ من حياتي». نظرت «مدام فورستييه» إليها بدهشةٍ وشفقة، وقالت الكلمة التي قصفت ما تبقّى من صمودها: «أوه، يا عزيزتي، كان عقدي مزيّفًا لا يساوي أكثر من خمسمائة فرنك!». هكذا يضع موباسان القارئ في نهاية القصة أمام سؤالٍ تصعب الإجابة عنه.. كم من الناس يدفعون أعمارهم لأجل عقودٍ زائفة؟ إنّ مأساة «ماتيلد» ليست في الفقر، بل في خيالٍ أعمى، لقد عاشت عشر سنواتٍ لتسدّد ثمن شيءٍ لا يمتُّ إلى الحقيقة بصلة، وهل ثمَّة استعارةٌ أبلغ للحياة البشرية من ذلك؟ نركض خلف البريق ونُحارب لأجل المظاهر، ونتعب لنُثبت لأنفسنا أننا نستحقّ، ثمّ نكتشف متأخرين أنّ عِقد الاستحقاق كان زائفًا. إنّ الإنسان لا يُعاقَب على خطاياه بقدر ما يُعاقَب على أوهامه، فلم تكن ماتيلد أنانية فحسب، بل كانت تعيش فصلاً وجوديًا من مأساة الإنسان الحديث، لقد أرادت أن «تبدو» لا أن «تكون»، فلا هي بدت ولا هي كانت! وربما لو لم تفقد العِقد لظلّت تعيش في فقاعة الوهم، فتُقايض ضيق بيتها ببريق أحلامها، لكن الفقد كشف لها أنّ القيمة لا تُستعار، وأنّ بريق الحقيقة لا يُشترى، وأنّ الزيف وإن لمع فإنّ أوّل وابلٍ من الحسرة كفيلٌ بإطفائه. فالفقر الذي نزل على «ماتيلد» لم يكن لعنةً، بل تطهيرًا عندما جرّدها من الزُّخرف حتى واجهت حقيقتها بلا أقنعة، فتعلّمت منه ما لم تتعلّمه من ثرثرتها الأنيقة، فبعد العشر العجاف كانت قد خسرت كلَّ شيء، لكنّها ربحت شيئًا لا يُقدّر بثمن، إنّه قناعتها وإن جاءت متأخرًة. أخيرًا.. فهي قصة لا تنتمي لامرأةٍ فرنسية بقدر انتمائها للإنسان في كل زمانٍ ومكان.. نعم، الإنسان الذي يخلط بين القيمة والمظهر، وبين الصورة والجوهر، إنها قراءة لسيرته في بحثه الأعمى عن المعنى خلف السراب، وفي محاولته لترميم هشاشته بالمظاهر.