لم تعد المقاهي مجرد أماكن لاحتساء القهوة وتبادل الأحاديث العابرة، بل أصبحت فضاءات نابضة بالحياة تجمع بين الذوق والفكر، وبين المتعة الثقافية والاجتماعية، في مشهدٍ يعكس تحوّل الكافيهات إلى جزءٍ من الحراك الثقافي والإنساني المعاصر. «من طاولة القهوة إلى طاولة الحوار» في السنوات الأخيرة، باتت المقاهي في المملكة تشهد حضورًا متزايدًا من المثقفين والكتاب والمهتمين، الذين وجدوا فيها بيئة مفتوحة للحوار وتبادل الآراء. يقول القاص وليد قادري: «المقاهي الحديثة أعادت صياغة مفهوم اللقاء الأدبي، فبدل أن تكون الفعاليات حبيسة القاعات الرسمية، أصبحت المقاهي منصات مفتوحة تشجع التفاعل وتقرّب المثقف من الجمهور». ويضيف: «القهوة لم تعد مشروبًا فحسب، بل أصبحت رمزًا للتواصل الإنساني، ومدخلًا لفكرة أو نص أو مشروع ثقافي جديد». «إرث ثقافي ضارب في التاريخ» منذ قرون، كانت المقاهي مهدًا للحوارات الفكرية وملتقى الأدباء والمفكرين. في القاهرة، احتضن «مقهى الفيشاوي» جلسات نجيب محفوظ، وفي «مقهى ريش» و«الزهراء» كانت نقاشات طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم حول النهضة والفكر العربي. وفي باريس، صاغ جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار فلسفتهما الوجودية بين طاولات المقاهي التي جمعت الأدب والفكر والسياسة في آن واحد. واليوم، تتجدد تلك الروح في مقاهينا الحديثة، التي تجمع بين التصميم العصري والمضمون الثقافي، فترى الزائر يحتسي قهوته على إيقاع أمسية شعرية أو ندوة فكرية أو لقاء إبداعي. «دعم رسمي وشراكات مجتمعية» تأتي هذه التحولات ضمن اهتمام الحكومة الرشيدة بالثقافة بوصفها ركيزة أساسية في رؤية المملكة 2030، حيث أُطلقت مبادرات وشراكات تهدف إلى دعم الفعاليات الإبداعية وخلق بيئة محفزة للهواة والمبدعين. وتوضح الكاتبة وجدان جعفر، مؤسسة نادي مداد للكتابة الإبداعية على منصة «هاوي»: «المقاهي الثقافية باتت امتدادًا طبيعيًا للنشاط الأدبي والاجتماعي، فهي تتيح لقاءً عفويًا يذيب الرسمية، وتجمع المبدع بجمهوره في مساحة مريحة تحفز الحوار وتبادل الأفكار». وتشير إلى أن منصة «هاوي» أسهمت في تنظيم المشهد الثقافي، وسهّلت تأسيس نوادٍ وجماعات أدبية وفنية داخل المقاهي، مما أعادها إلى مكانتها كمحاضن للإبداع. «المقاهي.. ذاكرة المكان والإنسان» تظل المقاهي في جوهرها مساحات إنسانية تذكرنا بأن الحوار الحي لا يموت، وأن الأفكار يمكن أن تولد في جلسة ودّية حول فنجان قهوة. إنها ليست ترفًا اجتماعيًا، بل ضرورة في زمنٍ تتزايد فيه العزلة الرقمية، ومتنفس يعيد للمدن روحها، وللناس تواصلهم الإنساني. فحين تمتزج رائحة البن بصوت النقاش أو حوار ثقافي راقٍ تتشكل لوحة منسجمة تجمع بين الذوق والوعي، وبين متعة المذاق وإشراق الفكرة. وليد قادري