النقل بين الحضارات الإنسانية يمثل حالة طبيعية قائمة على التأثير والتأثر، لكن غالبًا ما يكون هذا النقل في صورته المادية ونادرًا ما يحمل المعاني الثقافية التي كانت مُرتبطة به في ثقافته الأصلية، وغالبًا ما يكتسب معاني جديدة في البيئة الجديدة التي انتقل إليها. كنت أحاول أن أبسط للطلاب فكرة كيفية اكتساب الأشياء المادية معاني ظاهرة وكامنة، ولماذا يعمل البشر دائما على خلق هذه المعاني التي لا يستطيعون ممارسة الحياة بشكل طبيعي دون وجودها، ويبدو أن الحوار قادنا إلى تصنيف ما يحيط بالبشر إلى ظاهرتين أولاهما الظاهرة المادية والأخرى الظاهرة الثقافية، كان السؤال هو: هل هناك ظاهرة ثالثة يمكن إضافتها إلى هاتين الظاهرتين؟ لكننا لم نستطع أن نصل إلى ظواهر كبرى غيرهما، فقد توصل الجميع إلى قناعة أساسية هي أن كل فعل غير مادي يمكن أن يندرج تحت الظاهرة الثقافية حتى الظاهرة العلمية والاقتصادية والسياسية وغيرهما، فطيف الثقافة واسع وكل ما يمكن أن ينتجه الإنسان من معارف وممارسات تحمل القدرة على توليد المعاني الظاهرة والكامنة هي ضمن الظاهرة الثقافية. كان الهدف الأساس من هذا الحوار هو فهم "الهوية" ولماذا يتشبث الناس بالأشياء المادية للتعبير عن الهوية بينما الهوية في جوهرها هي ضمن الظاهرة الثقافية غير المادية التي مكن أن تتجسد ماديا في مرحلة زمنية قد تتغير في المستقبل؟ هذا السؤال الجوهري هو استكمال لنقاش سابق حول "كيف يُفكّر المصممون؟" عندما يرغبون في التعبير عن الهوية في منتجاتهم التصميمية المادية؟ هل يتعاملون مع الظاهرة الثقافية في جوانبها غير المادية أم أنهم ينقلون منتجاتها المادية ويعتبرونها هي التي تمثل الثقافة؟ علما أن بعض تعاريف الثقافة يشمل منتجاتها المادية وهو الأمر الذي أختلف معه ليس على مستوى انتماء المنتجات إلى الثقافة بل كونها تعبر عن ظاهرة الثقافة. الإجابة عن هذه الأسئلة تمثل محور فلسفة التصميم وتطور الفنون، حتى مؤرخي الفنون انتبهوا لهذه الإشكالية منذ فترة طويلة، فقد كانوا يفرقون بين المنتج الحرفي النفعي وبين المكتسبات الثقافية التي يكتسبها المنتج مع مرور الوقت، وهذا ما ذكره "هربرت ريد" عندما تحدث عن "من النفعي إلى المُقدّس"، وهو يعني هنا أن المنتج المادي ينشأ لأهداف وظيفية بحتة لكنه سرعان ما يكتسب قيمة ثقافية عندما يرتبط بتاريخ وذاكرة البشر. تكمن الإشكالية في اختصار البعد الزمني من خلال الرغبة في إكساب المنتجات المادية بعدا ثقافيا مباشرا من خلال الاستعانة بمنتجات مادية سابقة اكتسبت معان ثقافية. محاولة اختصار الذاكرة هذه جعلت من فكرة المعاني تتحول من ظاهرة غير منظورة إلى منتج مكتمل كان يحمل هذه المعاني في يوم من الأيام، وهذا جعل من فكرة التعبير عن الهوية من خلال التصميم (أي تصميم) هي فكرة مادية بحتة والمعاني التي تحملها هي مجرد حالة عاطفية تتكون نتيجة لاستثارة الصور الذهنية التاريخية التي قد لا يكون لها أي صلة بما يعيشه الناس على أرض الواقع. تهدف مثل هذه الأسئلة إلى البحث في الفلسفة التعليمية التي يفترض أن تتبناها مناهج التصميم، فهل هي مبنية على فلسفة مادية بحتة، أي أنها تُعلم الطلاب "الحرفة" أم يُفترض أن تُعلّمهم كيف تصبح الحرفة ضمن الظاهرة الثقافية. ربما نوّهت في مقال الأسبوع الفائت أن "المنهج" الذي تقوم فلسفة التعليم المعاصرة عليه لا يساعد الطلاب على فهم الظواهر التي تحيط بهم بشكل عميق لأن أغلب المناهج هي ذات اتجاه واحد يجعل القوة كلها بيد المعلم ويحول الطالب إلى وعاء يتلقى ما يُملى عليه. في الواقع تفكيك الظواهر المادية ومكتسباتها الثقافية يتطلب فلسفة تعليمية مغايرة مبنية على نشوء حوار مبني على اكتشاف التجارب التي تقود الطلاب إلى فهم الأسباب التي تجعل الظواهر المادية تتشابه، لكن معانيها الثقافية تختلف. البشر يتفقون في الحاجة إلى الملبس والمأكل إلى النوم والجلوس يعملون ويستقبلون الضيوف لكنهم يختلفون بشدة في الكيفية التي يمارسون بها هذه النشاطات وفي الكيفية المادية التي يعبرون بها عنها. يتطلب فهم الكيفية التي يتم بها نقل الإحساس بالهوية من خلال التصميم فهما غير مادي للظاهرة المادية نفسها، وهذا ربما غير موجود في الخطاب التعليمي الحالي مما يدفع كثيرا من المصممين إلى اعتبار "الثقافية" هي المنتج المادي الذي عبّر عن معان ثقافية في مرحلة زمنية محددة، وأن هذا المنتج المكتمل في الماضي يمكن أن ينقل الإحساس بالهوية في المستقبل إذا ما تم توظيفه بشكل صحيح؟ هذا التعريف من وجهة نظري يُمثل إشكالية جدلية يصعب الوصول إلى اتفاق حولها. يخلط البعض فكرة "التثاقف" Acculturation مع فكرة نقل الثقافة الجاهزة المتجسدة بالمنتجات المادية وحتى المكتوبة والمسموعة، فالنقل بين الحضارات الإنسانية يمثل حالة طبيعية قائمة على التأثير والتأثر، لكن غالبا ما يكون هذا النقل في صورته المادية ونادرا ما يحمل المعاني الثقافية التي كانت مُرتبطة به في ثقافته الأصلية وغالبا ما يكتسب معاني جديدة في البيئة الجديدة التي انتقل إليها. أستطيع أن أقول إن نقل الأشياء المادية التاريخية التي تطورت في الثقافة نفسها إلى المنتجات المادية المعاصرة هو نوع من "التثاقف العاطفي" الداخلي ولن يستطيع نقل المعاني التي تكوّنت في الماضي وإن كان سيولّد مشاعر عاطفية فارغة من المعاني الحقيقية التي عادة ما تكتسبها المنتجات المادية نتيجة لممارسات طويلة من قبل البشر تتطور خلالها علاقة خاصة ذات معان خاصة. يبدو لي أن الحوار اتجه إلى وضع تساؤلات جادة حول كيف يُفكر المصممون وحتى المبدعون، فقد كان الجدل حول ما إذا كان يُفترض من المبدع والمصمم أن يكون ناقدا حتى يستطيع أن يضع أجوبة على مثل هذه الأسئلة، وكنت أرى أن كل مبدع هو ناقد في الجوهر، لكنه يعبر عن تفكيكه وتحليله للظواهر بأدواته الإبداعية الخاصة التي ترفض السير مع السائد والتماهي معه.