يُمثل التوجه الاستراتيجي للمملكة العربية السعودية بمنح الجنسية للكفاءات المتميزة والمبدعين خطوة تتجاوز الإجراءات الإدارية لتصبح أداة استراتيجية بالغة الأهمية في الهندسة المستقبلية للاقتصاد الوطني، ومحوراً رئيساً لتحقيق مستهدفات «رؤية 2030». هذا التوجه، الذي تم اعتماده وتطبيقه عبر موافقات سامية لمنح الجنسية لعدد من المتميزين في تخصصات نادرة، ليعكس تحولاً جذرياً في فلسفة التعامل مع رأس المال البشري العالمي، حيث لم تعد المملكة تسعى لاستئجار الخبرات لفترة محددة، بل تسعى لكسب ثقة واستقرار العقول والمعرفة عبر منحها الانتماء الدائم، فالتجنيس هنا ليس امتيازاً شخصياً بقدر ما هو عقد شراكة طويل الأمد بين الدولة، وكفاءات قادرة على توليد قيمة مضافة مستدامة، وهذا ما تقتضيه مرحلة التنافسية العالمية الجديدة. ضمان استمرار النمو إن مفهوم التجنيس في سياق الرؤية السعودية يُعاد تعريفه ليصبح استثماراً استراتيجياً يضمن استمرارية زخم النمو الاقتصادي في مرحلة التنويع المكثفة للاقتصاد الوطني، وتحقيق هذا التحول يتطلب "حقن" السوق بكوادر ذات خبرة نادرة في مجالات غير تقليدية مثل الذكاء الاصطناعي، الأمن السيبراني، التقنيات الحيوية، والطاقة المتجددة، وعلوم الطب والكيمياء، وغيرها من التخصصات العلمية المهمة، وهي تخصصات تتسم بندرة عالمية وتتطلب وقتاً طويلاً لتدريب الكوادر الوطنية فيها، وهنا يبرز دور التجنيس ك"مسرّع للنمو" يختصر سنوات طويلة من الجهد والوقت اللازمين لبناء قاعدة معرفية متخصصة قادرة على قيادة الصناعات المستقبلية. وتعد العلاقة بين التجنيس والنمو الاقتصادي المستدام اليوم ركيزة أساسية في استراتيجيات الدول المتقدمة، حيث يتحول منح الجنسية إلى أداة تنمية مباشرة ومحرك للتدفقات النقدية ورأس المال الفكري، عالمياً، تتبع الدول استراتيجيتين رئيسيتين لتطويع إمكانات الكفاءات اقتصادياً: الأولى ترتكز على الاستثمار المباشر، حيث تمنح دول مثل البرتغال وقبرص الإقامة الدائمة التي قد تقود للجنسية لمن يشترون العقارات على أراضيها أو يضخون استثمارات رأسمالية كبيرة، مما يضمن تدفق العملات الصعبة وتنشيط قطاعات العقارات والسياحة بشكل فوري ومؤثر، أما الاستراتيجية الثانية والأكثر أهمية للمملكة، فهي التركيز على الاستثمار في العقول النوعية؛ فالولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية تتسابق لجذب العلماء والنابهين في مجالات الطب، والفلك، وعلوم الفضاء، والذكاء الاصطناعي، وتُبسط لهم إجراءات التجنيس لهم، هذه الكفاءات لا تساهم بالضرورة برأس مال نقدي مباشر، لكنها تقدم ما هو أثمن: رأس مال معرفي يُترجم إلى ابتكارات وبراءات اختراع ومنتجات تقنية ذات قيمة سوقية عالية، المملكة، بتوجهها الحالي، جمعت بين ميزات الاستراتيجيتين، مركزةً على الكفاءات التي لديها القدرة على تأسيس مراكز بحثية وشركات ناشئة عالية القيمة، وبذلك، يتحول كل مواطن جديد مجنّس إلى وحدة اقتصادية منتجة ومحفز للتوظيف ونقل التقنية، مما يعزز قدرة الاقتصاد السعودي على تحقيق النمو النوعي والكمي المتسارع. إن منح الجنسية للكفاءات يضمن عامل "الاستقرار" الذي لا يمكن تحقيقه عبر عقود العمل المؤقتة، فالكفاءة المتجنسة تستثمر بجرأة أكبر في تأسيس الشركات والمشاريع البحثية طويلة الأجل، وتضخ خبرتها في السوق المحلي دون خوف من انتهاء الإقامة أو الحاجة إلى نقل عائلتها، ما يرسخ رؤوس الأموال الفكرية والمالية في المملكة بشكل دائم، هذا النوع من الاستثمار يولد فرص عمل نوعية للسعوديين، ويخلق بيئة تنافسية صحية ترفع من مستوى الأداء العام في القطاعات المستهدفة، وبالتالي يضمن استدامة النمو الاقتصادي في العقود القادمة. آلية نقل المعرفة لا يقتصر الهدف من التجنيس على سد النقص في الكفاءات فحسب، بل يتعداه إلى آلية نقل المعرفة والعلم والتقنيات النادرة إلى السوق السعودي، لأن عملية نقل المعرفة هنا تتم عبر مسارين متوازيين يضمنان رسوخ العلم وتوطين الملكية الفكرية، المسار الأول هو الاندماج المؤسسي والتعليمي المعمق. الكفاءات المجنسة، خاصةً العلماء والباحثين والأكاديميين، يندمجون في الجامعات ومراكز الأبحاث الوطنية الكبرى ليصبحوا "أساتذة" و"قادة فرق" ينقلون أحدث الممارسات والتقنيات العالمية مباشرةً للطلاب والباحثين السعوديين، فالعمل جنباً إلى جنب بين العقول الوطنية والكفاءات المجنسة يخلق بيئة من الاحتكاك العلمي المستمر، تضمن تحويل المعرفة النظرية إلى ممارسة عملية قابلة للتطبيق، ويؤسس لجيل جديد من العلماء السعوديين القادرين على قيادة الابتكار، حيث إن المسار الثاني هو الابتكار الاقتصادي والريادي المباشر، فعندما يُمنح رائد أعمال أو خبير تقني الجنسية، فإنه غالباً ما يختار تأسيس شركته الناشئة المتخصصة في المملكة، معززاً بذلك منظومة ريادة الأعمال، هذه الشركات الجديدة تجلب معها أحدث التقنيات ونماذج العمل المبتكرة، وتعمل ك"مُحفز" لإنشاء سلاسل قيمة محلية جديدة، مما ينعكس على ارتفاع جودة المنتجات والخدمات السعودية في الأسواق العالمية، التجنيس هنا هو عملية "توطين" للعلم والملكية الفكرية، حيث يتم الاحتفاظ ببراءات الاختراع والتقنيات المولّدة داخل الحدود الوطنية. الإيجابيات المتعددة.. اقتصادياً واجتماعياً التجنيس الموجّه للكفاءات يجلب فوائد تفوق البوادر الاقتصادية المباشرة وتؤثر بعمق على جودة حياة المجتمع. اقتصادياً: يساهم المتجنسون في رفع الناتج المحلي الإجمالي، وزيادة الإيرادات غير النفطية، ويخفضون من معدلات البطالة بين الكوادر الوطنية من خلال خلق الوظائف النوعية عالية القيمة، كما أن وجود كفاءات عالمية يرفع من تصنيف المملكة في مؤشرات التنافسية العالمية الخاصة بالابتكار والمعرفة، مما يعزز جاذبية الاقتصاد للاستثمار الأجنبي المباشر، اجتماعياً وثقافياً، إذ يسهم تجنيس الكفاءات في تعزيز بيئة الانفتاح الثقافي والتسامح، ويضيف تنوعاً معرفياً غنياً للمجتمع، ويُعد تجسيداً عملياً لقيم الانفتاح الحضاري، الكفاءات المجنسة تعمل على إثراء الحراك الفكري والإبداعي في مجالات الفن والثقافة والرياضة، وهي عناصر ضرورية لتحقيق هدف "جودة الحياة"، كما أن اندماج هذه العائلات في المجتمع يضمن الاستقرار العائلي، مما يجعل المملكة وجهة دائمة للحياة، وليس مجرد محطة عمل مؤقتة، وهذا يعزز نسيج المجتمع ويقوي الانتماء. التحديات الاستراتيجية للمرحلة القادمة يجب أن يكون التجنيس عملية انتقائية ومحكومة بمعايير صارمة لضمان تحقيق القيمة الاستراتيجية المضافة، فالشرائح المستهدفة هي تلك التي تخدم الأهداف المستقبلية للرؤية، وتتركز أساساً في: العلماء والباحثون في التخصصات النادرة، الأطباء الاستشاريون ذوو الإنجازات الدولية النوعية، مثل الجراحين المتخصصين في فصل التوائم التي تُعد رمزاً للإنجاز الطبي العالمي، حيث يتم التجنيس متى ثبتت المساهمة النوعية والموثوقة للمرشح في تحقيق إنجاز يخدم المملكة على المدى الطويل، وتأكدت نيته في الإقامة والاستقرار الدائم. ومع هذه الإيجابيات، يواجه الملف تحديات استراتيجية تتطلب معالجة حاسمة، أولها الحاجة إلى الموازنة الدقيقة بين استقطاب الكفاءات وضمان عدم التأثير السلبي على فرص الكوادر الوطنية، وهي معضلة تُحل عبر التركيز على التخصصات النادرة التي لا يوجد فيها اكتفاء ذاتي حالي، وضمان أن يعمل المتجنس ك"مُدرب" ومُنتج للفرص لا ك"منافس"، التحدي الثاني يتعلق بالاندماج الثقافي الفعّال، حيث يجب أن تترافق عملية التجنيس ببرامج لتعزيز الانتماء والقيم المشتركة، لضمان أن يكون المواطن الجديد إضافة اجتماعية لا مجرد عامل اقتصادي. التحدي الثالث هو ضرورة تبسيط الإجراءات البيروقراطية وجعل عملية التجنيس واضحة وشفافة وفعالة في الوقت، لضمان أن تكون المملكة الخيار الأول للكفاءات العالمية، لا الخيار البديل، كما أن هناك تحدياً في المحافظة على هذه الكفاءات من العروض الدولية المنافسة، ما يتطلب استمرار توفير بيئة عمل محفزة ومناخ استثماري جاذب. إن التجنيس في السعودية اليوم هو قرار سيادي ذكي يهدف إلى إعادة تشكيل الخارطة البشرية لخدمة أهداف اقتصادية ومعرفية عظيمة، مؤكداً أن الاستثمار في "العقل" هو الاستثمار الأذكى في المستقبل. دعم البحوث العلمية يجعل المملكة دولة جاذبة للكفاءات العلمية الكوادر الوطنية المدربة تخدم الوطن في مختلف المواقع الكوادر الطبية الماهرة تستقطب للتجنيس