كل عام، يتحول معرض الرياض الدولي للكتاب إلى ما هو أعمق من مجرد سوق تجاري؛ بل مرآة ضخمة تعكس الوعي الجمعي للأمة، ومركزًا لاستشراف مستقبل الكلمة نفسها، فالكلمة، التي هي حجر الزاوية في بناء الفكر والهوية، لم تعد محصورة في مجلدات ورقية، بل أصبحت كيانًا طيارًا يتنقل بين الشاشات والمنصات السحابية. إن الرهان الحقيقي هنا ليس على حجم المبيعات، بل على فلسفة الثقافة وكيف يمكنها الاستمرار في بناء الإنسان في زمن السرعة الرقمية، فالثقافة هي قوة ناعمة لا تُقاس بالأرقام المباشرة، بل بقدرتها على تشكيل الوعي العام وتصدير الهوية الوطنية. في ظل هذه التحولات، يُطل ملف «التحول الرقمي وصناعة النشر الجديدة» كإشكالية مركزية: هل يُعزّز هذا التحول من الاقتصاد الثقافي ويزيد من فرص الاستثمار، أم أنه يُهدّد جوهر العلاقة الإنسانية بالكتاب؟ الإجابة لا تكمن في مقاومة التقنية، بل في فهم تأثيرها الخارجي على قيمنا ومُخرجاتنا الفكرية، وكيف يمكن تحويلها إلى أداة لتعزيز الهوية ونشرها عالميًا. اقتصاد المعرفة إنَّ التحول الرقمي يمثل في جوهره عملية جذرية لإعادة تعريف اقتصاد الثقافة، وتحويله من تجارة محلية مقيدة بالورق إلى تجارة معرفة عالمية عابرة للحدود، هنا يكمن الدور الأكبر للمملكة؛ فإصدار ونشر المعرفة لم يعد مجرد عمل ثقافي، بل هو رافد حيوي للدخل الوطني عبر فتح آفاق التجارة الإلكترونية. اقتصاد الطباعة لا يقتصر الاستثمار على المنصات الرقمية؛ فاقتصاد الطباعة يجد مسارًا جديدًا عبر نماذج مثل "الطباعة حسب الطلب"، الذي يحافظ على استدامة المطابع والمستثمرين في البنية التحتية التقليدية، مع تقليل مخاطر المخزون، والأهم هو أن هذا التحول فتح فرص عمل جديدة لا تُحصى للشباب في مجالات تصميم الكتب الرقمية، التعليق الصوتي، إدارة المحتوى الرقمي، وتحليل بيانات القراء. لقد فتح الفضاء الرقمي الأبواب أمام أجيال شابة من المؤلفين للانطلاق "بسرعة الصاروخ"، متجاوزين حواجز النشر التقليدي، هذا التسارع يتوازى مع توسع نوعي في عناوين الكتب لتشمل قضايا لم تكن تُنشر بكثرة من قبل، كالمعالجات العميقة في الشأن السياسي والاقتصادي والاجتماعي والرياضي والفني، كما أن السماء مفتوحة وتتسع للجميع، والفكر هنا يُصبح سلعة استثمارية ذات عائد معنوي ومادي. يُظهر معرض الرياض للكتاب هذا التوازن، حيث تسعى دور النشر لتصدير منتجها المعرفي إلكترونيًا، فكل كتاب يُباع رقميًا في سوق دولي هو تصدير للقيمة والثقافة، وهو ما يضع النشر والمعرفة كأحد أعمدة الاستثمار غير النفطي التي تعزز مكانة الدولة وقدرتها الاقتصادية والمعرفية في العالم. فنلندا والكلمة في عالم اليوم، تُقاس قوة الدولة ليس فقط بجيشها واقتصادها، بل بقدرتها على تصدير ثقافتها وقيمها، وهي ما يُعرف بالقوة الناعمة، هنا، يُصبح النشر الرقمي هو الوسيلة الأسرع والأكثر كفاءة ل ترسيخ مفهوم الهوية الوطنية ونشر تأثيرها على الآخرين. التجارب العالمية خير شاهد؛ فدول مثل فنلندا رسخت مكانتها كقوة عالمية عبر تصدير مناهجها وعلومها التعليمية، وهي في الأصل محتوى فكري ومعرفي تحول إلى سلعة رقمية ذات قيمة اقتصادية وثقافية عالية. عندما يتمكن القارئ في أي بقعة من العالم من الوصول المباشر إلى الأدب السعودي، والاطلاع على العادات والتقاليد والقيم من مصدرها الأصلي، فإن هذا يُعزز التفاهم الحضاري ويمنح المملكة عمقًا استراتيجيًا خارجيًا. استراتيجية المملكة وريادة 2030 إن دخول المملكة لهذا المضمار ليس ترفاً ثقافياً، بل هو خيار استراتيجي مدعوم برؤية 2030، التي تضع الثقافة كعنصر أساسي في جودة الحياة والنمو الاقتصادي، حيث تهدف الرؤية إلى تحويل الثقافة إلى أحد محركات الدخل الوطني، معتمدة على مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة لدعم الناشرين والمؤلفين الشبان، فهذا الدعم الشامل يؤسس لبيئة خصبة تمكن المحتوى السعودي من المنافسة عالميًا في الفضاء الرقمي، ومن خلال هذه الاستراتيجية الطموحة، تؤكد المملكة التزامها بأن تصبح مركزًا عالميًا للمعرفة، حيث يتم الاستثمار في الابتكار التقني واقتصاد المعرفة لضمان أن تبقى الكلمة السعودية مؤثرة، متجذرة في الهوية وممتدة في الآفاق الدولية. المعرض شاهد على العصر لم يكن معرض الرياض الدولي للكتاب هذا العام مجرد موقع لعرض الكتب، بل كان مختبراً حياً لهذه التحولات، شاهداً على العصر وعلى الأبعاد الإنسانية المتضاربة التي أحدثتها الرقمنة، ففي أروقة المعرض، تقف الأجنحة الكلاسيكية لدور النشر التقليدية بجوار منصات التطبيقات الرقمية العملاقة، مؤكدة أن التحول لم يعد خياراً، بل استثماراً ضرورياً، فقد شهد المعرض إقبالاً على أجنحة "النشر الهجين" التي تقدم الكتاب الورقي مع نسخة رقمية أو صوتية، مما يبرهن على أن الناشر الذكي هو من يتبنى مفهوم التوازي بدلاً من الإلغاء. كانت الندوات والمحاضرات هي الجانب الأكثر أهمية في تلمس البعد الإنساني؛ حيث ناقش الفلاسفة والأدباء تأثيرالشاشة على فلسفة الثقافة نفسها، فهل تغير القراءة الرقمية من عمق الاستيعاب؟ هل أثرت سهولة الوصول على قيمة الكتاب في نفس القارئ؟ لقد أبرزت الفعاليات ضرورة الاستثمار في جودة المحتوى الرقمي، ودعم مبادرات القراءة التي تعيد الاعتبار ل "القراءة المتأنية" بعيداً عن ضجيج الإشعارات. إن المعرض هو لحظة تجسيد لفكرة أن الكتاب، ورقياً أو رقمياً، يظل هو الأداة الأهم في رحلة بناء الفرد والمجتمع. الخاتمة والرؤية في نهاية المطاف، يكشف معرض الرياض الدولي للكتاب عن حقيقة واحدة لا تقبل الجدل: التحول الرقمي ليس نهاية للكلمة المكتوبة، بل هو فرصة تاريخية لإعادة تعريف مفهوم الوصول إليها وتأثيرها. إن التحدي الأكبر لصناعة النشر الجديدة ليس في تطوير التطبيقات والمنصات، بل في حماية فلسفة الثقافة من أن تتحول إلى استهلاك سريع سطحي. يستدعي المستقبل ناشرين ومؤلفين وقراء يؤمنون بأن اقتصاد الثقافة هو استثمار طويل الأمد في الهوية وفي القوة الناعمة للمجتمع، فلم تعد الأدوات الرقمية مجرد وسائل تعزز التأثير الخارجي للثقافة وتسهل الاستثمار في المحتوى الجيد، لكن جوهر العملية يبقى إنسانياً وفكرياً بحتاً، فالكلمة، سواء على الورق أو على الشاشة، ستبقى المصباح الذي ينير طريق الحضارات، والمملكة، من خلال هذا المعرض ورؤيتها الطموحة، تؤكد التزامها بأن تظل رائدة لهذا الإشعاع. معرض الكتاب يشهد اهتماماً مجتمعياً متزايداً الكتب الرقمية تسجل حضورها في معارض الكتب