تشكيل المجتمعات وتوسيع آفاق الحوار بين الثقافات فتح الباب أمام الأجيال للمشاركة في صناعة المستقبل يُعدُّ معرض الرياض الدولي للكتاب من أبرز المناصات الثقافية في المملكة العربية السعودية، بل وفي العالم العربي، إذ يجمع بين دور النشر والمثقفين والجمهور في تجمُّع سنوي للأدب والمعرفة. ويمثّل المعرض أحد أدوات الدولة رعاها الله في ترسيخ مبدأ أن الثقافة والقراءة جزء أساسي من بناء الهوية الوطنية والاقتصاد المعرفي. في النسخة لعام 2025، انطلقت فعاليات المعرض يوم 2 أكتوبر في حرم جامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن، تحت شعار «الرياض تقرأ»، ويستمر حتى 11 أكتوبر، بمشاركة أكثر من 2000 دار نشر ووكالة محلية ودولية من أكثر من 25 دولة. كما تم اختيار أوزبكستان ك»ضيف شرف» لهذه النسخة، وخصص المعرض لها فعاليات ثقافية وفنية لتسليط الضوء على الأدب والتراث الأوزبكي. والاستعدادات تُعدّ مؤشّراً إلى الاهتمام الحكومي بالمعرض كمنصة استراتيجية للثقافة، ويبدو أن زخم الدورة الجديدة يُظهر رغبة في دفعه إلى مراتب أعلى من التأثير المحلي والإقليمي. حول النشأة والتاريخ والتطوّر لمعرض الرياض الدولي الكتاب، فتُشير المصادر إلى أن أول نسخة لمعرض الكتاب في المملكة عُقدت في عام 1398ه / 1978 م، بمشاركة نحو 120 دار نشر آنذاك. وعلى مر السنوات، تطوّر المعرض من جهة الحجم وعدد الجهات المشاركة والمبيعات، كما تغيَّرت الأماكن التي يُعقد فيها باختلاف احتياجاته التنظيمية. «صناعة المعرفة» في قلب العاصمة السّعودية الرياض، حيث تتقاطع الطّموحاتُ مع الحلم الكبير لرؤية 2030 يطلُّ معرض الرّياض الدّولي للكتاب 2025 كأكثر من مجرَّد تظاهرة ثقافية، بل إنّه إعلان صريح بأنّ المملكة تدخل عصر صناعة المعرفة من أوسع أبوابها. تحت شعار «الرّياض تقرأ» يتحوَّل المعرض إلى منصَّة استراتيجيَّة تعيد تعريف علاقة الفرد بالكتاب ليس بوصفه وسيلةً للتَّعلُّم فحسب، بل كأداة لتشكيل المجتمعات وتوسيع آفاق الحوار بين الثقافات، هنا يلتقي أكثر من 2000 دار نشر ووكالة تمثل 25 دولة، ويصغي الجمهور إلى 115 متحدِّثًا بين مفكّرين ومؤلّفين وصُنَّاع محتوى من مختلف القارَّات، المشهد أقرب إلى قمَّة فكريَّة عابرة للحدود منه إلى معرضٍ تقليديٍّ للكتاب. واللغة الرَّقميَّة لها نصيبٌ، والفنون تجد مكانها، والطفل والأسرة يتقدَّمان في المشهد بما يجعل من الرِّياض مختبرًا مفتوحًا لصناعة المستقبل الثقافي، ومن خلال 200 فعّالية مصاحبة و30 جلسة حوارية و45 ورشة عمل، تصبح العاصمة أشبه بمدينةٍ نابضة بالأسئلة والإجابات بالجدل المعرفيِّ والإبداعيّ الذي تحتاجه أيُّ أمَّةٍ تخطو بثقة نحو العالميَّة. ولعلَّ اختيار جمهوريَّة أوزبكستان ضيفَ شرف هذا العام، يعكس بوضوح رغبة المملكة في بناء جسور ثقافيَّة جديدة مع آسيا الوسطى، حيث التّاريخ الإسلاميّ والثقافة المشتركة يلتقيان مع الحاضر والمستقبل، إنَّها إشارةٌ ذكيّة إلى أنَّ السّعوديّة لا تتعامل مع الثقافة كرمزٍ داخلي فحسب، بل كقوة ناعمة تعيد رسم خرائط التَّواصل الحضاري. الدّكتور عبداللطيف الواصل الرئيس التنفيذي لهيئة الأدب والنَّشر والتَّرجمة يصف المعرض بأنَّه فرصةٌ كبيرة للناشرين والمشاركين المحلِّيين والدّوليين لتوسيع جمهورهم وعرض إنتاجهم الثقافيّ والأدبيّ، لكن ما يفعله المعرض في العمق أبعدُ من ذلك إنَّه يرسِّخ المملكة كمركز ثقافي عالميّ ويعزِّز من اقتصاد المعرفة الذي تسعى رؤية 2030 إلى وضعه في صميم التَّحوُّل الوطنيّ. «طقسٌ ثقافي» وزيارة المعرض ليست تجربةً عابرة، بل إنَّها طقسٌ ثقافيٌّ متجدِّد حين يتنقل الزَّائر بين أجنحته، يلتقي بعالم كامل من الأفكار، مِن ورش عملٍ تغرسُ مهاراتِ الغد، إلى نقاشاتٍ فكرية تكسر الحواجز، وصولًا إلى مساحات الطِّفل التي تبني جيل المستقبل. والسُّؤال الأعمق الذي يطرحه المعرض هذا العام: هل نحن أمام لحظةٍ تاريخيَّة حيث تطرق الرِّياض أبواب العالم الثقافي؟ يبدو أنَّ الجواب قد بدأ يتَّضح، فالمملكة لا تكتفي باستضافة معرض دوليٍّ بل تصنع من الكتاب جسرًا اقتصاديًّا ومعرفيًّا وحضاريًّا يعيد تعريف مكانتها في الخريطة العالميَّة. و»الرِّياض تقرأ» ليست شعارًا فحسب، إنَّها إعلان دخول المملكة حقبة جديدة من القوة الناعمة والتأثير العالمي. يعد تأسيس هيئة الأدب والنشر والترجمة ضمن وزارة الثقافة وهي الجهة المسؤولة عن التنظيم والإشراف توجها لتطوير المعرض ليتماشى مع رؤية المملكة 2030 التي تشدّد على الثقافة كركيزة من ركائز جودة الحياة. وكان في نسخة المعرض في 2022، أن أعلن القائمون عليه أن مساحة المعرض قد ارتفعت بنسبة 50 ٪ مقارنة بالنسخ السابقة، ليصبح الأكبر في تاريخ المملكة حتى ذلك الحين. وبهذا المسار، تحوّل المعرض من حدث محلي إلى حدث ثقافي ضخم له رأس في المشهد العربي، وقادر على استقطاب دور نشر ومثقفين من مختلف الدول. وتكمن أهداف المعرض ودوره الاستراتيجي في تبويب الأهداف والدور إلى محاور رئيسية منها: تعزيز القراءة والوعي المعرفي، والمعرض يتيح للجمهور الاطلاع على جديد الإصدارات في مجالات الأدب، الفكر، العلوم، الترجمة، الثقافة المعاصرة، والتخصصات المتنوعة. كما تُقام الفعاليات المصاحبة (ندوات، ورش عمل، حوارات، أمسيات شعرية) والتي تغذّي التفكير وتشجّع التواصل الثقافي. ودعم صناعة النشر والترجمة. ويُعد المعرض فرصة لدور النشر لعرض إصداراتها أمام الجماهير التي ترتاد المعرض طيلة أيامه، وتشهد التوقيع وتبادل الحقوق، والالتقاء والمؤلفين والمترجمين والعاملين في القطاع والتعرّف على المستجدات في هذا السوق. ماجعل المعرض يسهم بجذب الثقافات العالمية وتعزيز التبادل الثقافي من خلال دعوة دولة كضيف شرف، ويُعطى بعد دولي للمعرض، مما يفتح آفاق التعاون الثقافي بين الدول، ويُمكِّن من عرض الثقافة والتراث الأدبي لتلك الدول أمام الجماهير السعودية والعربية. «هوية سعودية» ويعد المعرض منصة لتعزيز الهوية السعودية في الأدب والفكر، من خلال التركيز على الإنتاج المحلي، وتشجيع المؤلفين السعوديين، وعرض مشاريع ثقافية تهتم بالتراث والحداثة على حدّ سواء. ويقع المعرض ضمن رؤية المملكة لتطوير صناعات الإبداع، ويُنظر إلى المعرض أيضًا كجزء من استراتيجية لتحفيز القطاع الثقافي كمكوِّن اقتصادي؛ من خلال المبيعات، والعقود، والتراخيص، والنشاط التجاري المرافِق للحدث. ويُقام المعرض سنويًّا ولمدة في حدود 10 أيام. وكان المكان المخصص في النسخة 2025 هو حرم جامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن بالرياض. وأوقات العرض تستمر غالبًا من الصباح إلى منتصف الليل (أو ما شابه) لتسهيل حضور عدد أكبر من الجمهور. والجناح المخصص لدولة ضيف الشرف: تُخصص مساحة كبيرة للثقافة والتراث والإصدارات الخاصة بها، ويُقام ضمن الجناح نشاطات خاصة بهذا البلد. والفعاليات الثقافية على الجوانب (الندوات، ورش العمل، الحوارات، الأمسيات الشعرية، عروض فنية ومسرحية) تُنظَّم بموازاة المعرض، وتُوزَّع عبر عدة قاعات واستوديوهات داخل المكان. ومن الفعاليات البارزة في 2025: عرض مصحف مطرّز مكوَّن من 12 مجلداً، قام بإنجازه الخطاط السوري محمد ماهر حجازي، حيث قُدّم كعمل فني ضخم داخل المعرض. كذلك، حُدّدت مساحات كبيرة لفن الخط العربي، مع ورش تفاعلية وعروض مباشرة، لتعزيز حضور العناصر البصرية المعروفة في الثقافة العربية. وعدد المتحدثين في النسخة 2025 يصل إلى حوالي 115 متحدثًا، والفعاليات الثقافية تزيد على 200 فعالية مختلفة. ومن أبرز الندوات: الدبلوماسية الثقافية لأوزبكستان، ردور الكاتب في بناء العلاقات الدولية؛ وندوة عن الذكاء الاصطناعي ومستقبل الصحافة؛ وندوة سياسية يستضاف فيها سمو الأمير تركي الفيصل. «جمهور وتفاعل» ومنذ الأيام الأولى، شهد المعرض توافدًا كثيفًا من الجمهور من كافة فئات المجتمع السعودي، بالإضافة إلى جمهور من المقيمين والزوار الأجانب. وأشاد الدوار بجودة التنظيم وتسهيل الخدمات (دروب التوجيه، الخدمات اللوجستية، الفضاءات المريحة للجلوس والاطلاع). ودور النشر والمشاركون أكدوا أن الإقبال على الأجنحة والكتب عالية، وأن الفعاليات الجانبية جذبت الحضور إلى القاعات الداخلية. ويخصص المعرض عددًا من المناطق والفعاليات المتنوعة التي تعزز مكانته كملتقى شامل للمعرفة والإبداع، منها منطقة الأعمال التي تعود هذا العام بحلّة أوسع بعد النجاح الكبير الذي حققته في الدورة الماضية، لتؤكد دورها الحيوي في تمكين صناعة النشر وتعزيز شراكاتها محليًا ودوليًا، بمشاركة أكثر من 30 جهة رائدة. وتضم المنطقة تحت مظلتها الوكالات الأدبية المتخصصة بإدارة حقوق المؤلفين وعقودهم، إلى جانب أجنحة الجهات الحكومية والاستشارية والريادية العاملة في قطاع النشر، بما يعزز مكانتها كمنصة متكاملة تستقطب مختلف أطراف الصناعة، كما تقدم المنطقة برنامج أعمال نوعي يضم أكثر من 45 فعالية متنوعة. ومن أبرز الأجنحة التي شاركت في المعرض هذا العام الجناح الصيني تحت شعار «قراءة الصين»، ليقدم للزوار تجربة ثقافية ثرية تستعرض عمق الأدب الصيني وتنوّع منجزاته الفكرية والمعرفية. ويضم الجناح مجموعة من الإصدارات المترجمة إلى العربية والإنجليزية، تغطي مجالات الأدب والتاريخ والفكر والفنون، إلى جانب كتبٍ تعرّف بالحضارة الصينية القديمة والمعاصرة. كما يُتيح للزوار الاطلاع على نماذج من الثقافة الصينية من خلال المعارض المصاحبة والعروض المرئية واللقاءات الأدبية. ويأتي حضور الصين ضمن المشاركة الدولية الواسعة التي يشهدها المعرض، في تأكيد على دور الكتاب بوصفه جسرًا للتواصل بين الثقافات، ووسيلة لتعزيز الحوار الحضاري والانفتاح الإنساني بين الشعوب. «تحديات وفرص» وبين الإبداع والتحدي والفرص اختتمت هيئة الأدب والنشر والترجمة في الحادي عشر من اكتوبر فعاليات معرض الرياض الدولي للكتاب 2025 ، وسط حضور ثقافي وجماهيري واسع، ومشاركة دولية غير مسبوقة عكست المكانة التي باتت تحتلها العاصمة السعودية الرياض كمنصة ثقافية عربية وعالمية، شارك فيها المفكرين والكتاب والمبدعين من داخل المملكة وخارجها. وهذا الإنجاز الثقافي والتنظيم المتطور حظي بإعحاب الزوار والعارضين بالتطور الملحوظ في التنظيم، وبالبرامج المصاحبة التي جمعت بين الأدب والفكر والفن والتقنية، فيما أكد عدد من الناشرين أن المعرض أصبح أحد أهم منصات النشر العربية من حيث حجم المبيعات وفرص التبادل الثقافي. كما لاقت مبادرة «ضيف الشرف» تفاعلاً واسعاً، وفتحت آفاقاً جديدة للشراكة والترجمة بين المملكة ودول آسيا الوسطى. وبرزت خلال المعرض تحديات واقعية تستحق المعالجة رغم النجاح الكبير. وأشار عدد من الزوار إلى بعض التحديات التنظيمية التي يمكن تحسينها مستقبلاً، أبرزها ازدحام المداخل وصعوبة التنقّل داخل المعرض في أوقات الذروة، إضافة إلى الحاجة لزيادة الوضوح في تقسيم الأجنحة وتصنيف الكتب. كما طُرحت ملاحظات حول تنظيم العروض والأسعار وضرورة توحيد سياسات الخصومات بما يحقق العدالة بين الناشرين. وأفرز المعرض فرصاً مستقبلية واعدة، ومتعددة لتعزيز صناعة النشر والاقتصاد الثقافي في المملكة، من أبرزها: التحول الرقمي عبر تطوير تطبيق ذكي يسهّل على الزائرين التنقّل ومعرفة مواقع الأجنحة وجدول الفعاليات وشراء الكتب إلكترونياً. وتوسيع الشراكات الدولية في مجالات الترجمة والنشر المشترك، وتحسين تجربة الزائر من خلال خدمات نقل ومواقف أكثر تنظيماً، ومناطق مخصصة للعائلات والأطفال والتوجه نحو صناعة كتاب مزدهرة وأكد عدد من المشاركين أن معرض الرياض الدولي للكتاب أنه لم يعد مجرد حدث سنوي للقراءة، بل أصبح مشروعاً وطنياً يعزز مكانة الثقافة السعودية، ويرسخ رؤية المملكة في دعم المعرفة والإبداع، ويفتح الباب أمام أجيال جديدة من الكتّاب والقراء والناشرين للمشاركة في صناعة المستقبل. والهيئة تعمل على استمرار العمل على تطوير التجربة التنظيمية والتقنية في النسخ المقبلة، بما يعزز من مكانة الرياض كعاصمة للثقافة العربية، ويحوّل المعرض إلى منصة عالمية لتلاقي الحضارات وصناعة المحتوى المعرفي.