في طفولتي، اعتدت أرى أمي تستخدم مقصًا وهي تمارس الخياطة على طاولة خشبية قديمة، ودائمًا ما كانت تردد: "قِس مرتين وقُص مرة". هذه العبارة علَّمتني أن القرار يحتاج إلى دقة في القياس، لكن القيمة الحقيقية تَكمُن في القص، أي في التنفيذ. تذكَّرت مقص أمي حين قابلت زميل عمل سابق، كان يحلم ب"بيت العمر"، ويصف تفاصيله بدقة: "موقع الأرض، مساحات الغرف، الحديقة، والواجهات، وغيرها". التقيت به مرة أخرى بعد أربع سنوات في إحدى المناسبات؛ فسألته بحماس: "متى ستدعونا إلى منزلك الجديد؟"، أجاب بصوتٍ خافت: "قريباً سأبدأ!". لم يكن سبب التعثر - كما ذكر - مالًا ولا إمكانات، بل كثرة الآراء. كل من حوله أصبح مهندسًا وخبيرًا: أحدهم يقترح غرفة للوالدين في الطابق الأرضي، وآخر تأسيس شقة مستقلة لابنه قبل أن يكبر، وثالث يُلِحّ على سينما منزلية، ورابع يرى أنه لا غنى عن بركة السباحة. الاستشارة ليست قائمة أمنيات مفتوحة، وإنما أداة تعتمد على التنوع في وجهات النظر والخبرات والتجارب؛ فالصوت المختلف يكشف زاوية غائبة، أما الآراء العشوائية تصبح ثُقلاً يُقيِّد القرار، ليظلّ الحلم حبيس الورق. وهناك عائق آخر خفي يتمثل في سراب السعي للكمال التام، الذي يستهلك الوقت والجهد. مع مرور الزمن، أدركت أن المقص مهما كان حادًا، إن لم يُستخدم يعلوه الصدأ. والصدأ هنا ليس صدأ الحديد، وإنما صدأ اتخاذ القرار والقدرة على الإنجاز؛ فالخطط الاستراتيجية المحكمة تبقى بلا تنفيذ مجرد أحلام وأوهام. لكن التنفيذ في ذاته ليس أمرًا يسيرًا، ويحتاج إلى المبادرة والشجاعة، وترجمة الخطط، والمرونة في التكيُّف مع المتغيرات الطارئة، وهذا ما يجعلك تصنع الفرق بين حلم مؤجل ومشروع مكتمل، وبين خطة مكتوبة وإنجاز ملموس. كأس العالم للرياضات الإلكترونية في الرياض تعدّ أعظم مثال على التخطيط السليم والتنفيذ الدقيق، بقيادة سيدي عرَّاب الرؤية والمُلهِم الأمير محمد بن سلمان، الذي استغل الفرص الاقتصادية الضخمة في هذا القطاع الواعد، وأصبحت المملكة لاعبًا رئيسيًا فيه خلال فترة وجيزة. جوهر القيادة ليس في جمع أكبر عدد من الآراء ولا بمطاردة كمال لا يُدرك، بل بوضع الخطط، واتخاذ القرار، واستقطاب الكفاءات البشرية القادرة على تحويل الرؤية إلى واقع يمنع صدأ المقص. * خبير تنفيذي في إدارة المشاريع وتطوير الأعمال