في عالمنا الرقمي، أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي وبرامج المحادثة وعلى رأسها واتساب منابر قويّة تؤثّر على عقول الناس، في كثير من الأحيان دون أن يدركوا أنها تقودهم، هذه الظاهرة تُعرف ب"قيادة الجموع (المعروفة بسياسة القطيع)"، أي عندما يستشعر الفرد أن الرأي السائد بين الناس هو الأصدق، فينقاد وراءه دون تحرٍّ أو تمحيص. في دول العالم التي لديها شغف ومتابعة أكبر لتلك الوسائل الرقمية، ومملكتنا تحديدًا متقدمة بهذا الجانب، يكون تأثير وسائل التواصل على المجتمع واضحًا؛ فقد أكدت دراسة سعودية أن شبكات التواصل أثّرت في التوجهات الفكرية للشباب، وكشفت عن علاقة ارتباطية ذات دلالة إحصائية بين التعرض لمنصات التواصل وتشكّل التوجهات الفكرية لديهم، كما أشارت إلى أهمية البحث عن كيفية صقل العقل الجمعي وتحفيز التفكير الناقد. أما على مستوى الشرق الأوسط، فإن أحداث ما يسمى بالربيع العربي أعطت مثالاً بارزًا عن قوة الجماهير الرقمية، وكيف يمكن لمنصات مثل فيسبوك ومنصة إكس أن تنشر الأفكار بسرعة، وتحوّل شعورًا محليًا إلى حركة جماهيرية ضخمة، رغم أن التحريض نشأ من بضعة نشطاء أو طرف محدود، وتحمل هذه التجربة دلالة واضحة أن مجرد تأييد بسيط مبكر قد يصوّر أن الرأي هو الأغلبية، فينجرف وراءه كثيرون -للأسف- من دون تمحيص. أما المثال الواقعي الأبرز في السعودية في الوقت الراهن، فهو ما حدث مع أحد المطاعم الشهيرة.. في البداية، اندفع الناس بشكل مبالغ فيه لمقاطعة الشركة تضامنًا مع موظف بدا أنه تعرض لظلم، لكن بعد فترة قليلة، انقلب الموقف إلى دعم واسع للشركة؛ هذا التحوّل السريع يوضح قوة "قيادة الجموع" حين يسود انفعال أولي، يلحق كثيرون التعاطف، وعندما تظهر تفاصيل أخرى، يغيرون موقفهم بنفس الزخم. ظاهرة كهذه تؤكد أن الرأي الجماعي ينتشر بسرعة، لكنه هش؛ وعندما يتراجع المنطق أمام العاطفة الإعلامية، تترنح الصورة والسمعة على وقع تيارات الدعم أو المقاطعة، ولذا، صار لزامًا على الجهات أن تكون جاهزة بالتواصل السريع، والشفافية في عرض الحقائق، وأن تتفهّم أن الجماهير لا تقف متمهّلة، بل تتّبع الموجة. على مستوى التفكير المجتمعي، فإن الاعتماد على القطيع الرقمي يُضعف ثقافة التحقق، ويعمّق الانقسام، ويضعف مهارة المواجهة الفكرية؛ إن المجتمع القوي لا يُقاس بعدد المتابعين فقط، بل بمدى قدرته على التوقف ليفكّر، أن يبحث عن الحقيقة لا أن يكتفي بردّ فعل تلقائي. ختامًا؛ ما نراه اليوم من "قيادة الجموع" ليس محض مصطلح، بل واقع نعيشه على الشاشات والجوالات، فالمطلوب أن نواجهه بعقل بارد، ووعي ثابت، وممارسة تمحيص بسيطة قبل المشاركة؛ فالتغيير الحقيقي يبدأ حين نُمكّن عقولنا من التفكير الحر، لا حين نلحق بالمزامير الجماعية.