في خضمّ عصرٍ يزهو بالتقدّم وتُطوى فيه المسافات بلمح البصر، وتُذلّل الصعاب بخوارزمياتٍ ذكيّة، يجد إنسان اليوم نفسه غارقًا في دوامات من القلق والضياع، فبينما تتسارع خُطا التكنولوجيا وتتعالى صروح المدن، وتُبهرنا الأنظمة الرقميّة، تظلّ الروح الإنسانيّة حبيسة شعورٍ عميق بالوحدة وفقدان المعنى. وهكذا تظهر صورة الإنسان المعاصر في دوائر أزمة وجوديّة ونفسيّة وروحيّة، تقتات على تناقضات العصر، وتتبرعم مع كل إنجازٍ تقني يُفترض به أن يقود نحو مزيد من الهناء والسعادة. نعم لم يعد خفيًّا أن الإنسان الرقمي اليوم يعيش في دوّامات دائمة؛ ففي الوقت الذي ينعم فيه بمستوى معيشي غير مسبوق وإمكانات تواصل لا حدود لها، تتآكل روحه في فراغ داخلي موحش. فمئات الأصدقاء الافتراضيين لا يغنون عن صديقٍ حميمٍ واحد يشاركه كلمة صادقة في سكون ليلةٍ مثقلة بالهموم. والرسائل الرقميّة الباردة لا تعوّض دفء لمسةٍ حانية أو نظرةٍ تطوّق ضعفه دون كلمات. لقد حوّلنا العالم الرقمي إلى نزلاء سجنٍ من زجاج؛ نرى من خلاله الجميع، لكن لا أحد يرانا حقًا. ننتقي الكلمات لنُعبّر عن سعادةٍ زائفة ونحن في غياهب الانقباض، ونستعرض نجاحاتٍ باهظة الثمن ونحن في قاع الخيبات. وهكذا، أصبحت حقيقة أحوال الإنسان مدفونة تحت ركام المقاطع والصور البراقة "المفلترة" بالابتسامات المصطنعة. والأدهى أنّ هذا التيه الرقمي يهدّد بفقدان الهويّة لدى الأجيال الجديدة. فقد تزامنت الثورة الرقميّة مع ذروة العولمة، لتسرّع من ذوبان الثقافات ونبذ القيم والأصالة، حتى بات هناك من يشعر أنه بلا جذورٍ أو انتماء. ومن هنا نشأ جيلٌ ينظر إلى ماضيه بارتياب، ويتعامل مع تراثه كعبء، ويرى المستقبل كمجهولٍ مرعب. إنسان حائر، فلا هويّة صلبة تمنحه الثبات، ولا خريطة طريق ترشده. فالهويّة لم تعد تُبنى على الدين أو الأسرة والمجتمع، بل على "اللهاث المحموم" لجني المزيد من المال لاستهلاك السلع، واقتناء الماركات وتزييف اللحظات عبر الوسائط والأجهزة التي لا تفارق أكفّنا. ومع هذا التسارع المهول في إيقاع الحياة، صار النوم -عند البعض- هدرًا، والراحة تقصيرًا، والتأمل خمولًا، والأسرة عبئًا. وهكذا، يُستنزف الجسد وتُرهق الروح. فلم يعد هناك متسعٌ للتأمل أو القراءة المتأنية أو الجلوس مع الذات والأحبّة. فكل فراغ يلتهمه الجهاز الصغير بين اليدين. وفي خضمّ هذا التنافس المتوتر، أصبحت الحياة العصريّة ماراثونًا بلا نهاية، لا فائز فيه، ولا حتى جائزة. وإذا نظرنا إلى أبعد من الفرد، وجدنا التنافس الدولي في صناعة وابتكار ما يهدّد الوجود الإنساني. فبينما نُنجز في بناء المدن، نُدمر الطبيعة التي تُغذي وجودنا، ونُلوث الماء والهواء، ونستنزف الموارد، ونُهلك الغابات، وننتج أسلحة فتّاكة، ثم نُفاجأ بارتفاع درجات الحرارة، وذوبان الجليد، وانقراض الكائنات، وانخفاض قيمة الإنسان. والأسوأ من ذلك أن هذه الكوارث لا تُشعرنا بالذنب فحسب، بل تُثير فينا رعبًا وجوديًا: هل تنتظرنا كوراث أكبر؟ وهل سيُولد أبناؤنا في عالم قابل للحياة؟ وفي عمق كل هذا، تظل الأزمة الروحيّة هي الأعمق. فمع تراجع الإيمان والطمأنينة في الحياة العصريّة العامّة، يفقد الإنسان مرجعيته الأخلاقيّة، ويُسلب معنى التضحية، والعطاء، والتواضع، والرحمة. إذ كما يبدو لم يعد للحياة هدف سوى أن يُحارب كل فرد من أجل النجاح، والمال، والشهرة بأي ثمن. وهكذا، تُصبح القيم الإنسانيّة العظيمة رهنًا بالفائدة، ويتراجع الإحسان الخفيّ وتتقدّم "المنّة" أمام "الفلاشات". تُرى من يتفكّر في زحام هذا السباق ويقول لنا: ربما لا تكمن نجاة الإنسان المعاصر في مزيد من الركض لتغذية "الظاهر" بالمزيد من تزييف "المظاهر"، بل في التوقّف، والتأمّل، والعودة إلى جوهرنا الإنساني، وإعادة بناء التوازن بين التقدّم والقيم، والتكنولوجيا والروح، وبين الفرد والمجتمع. * قال ومضى: ما أقسى الطموح بلا روح..