أكتب هذه القراءة من موقع الروائي لا الناقد. ما دفعني إلى ذلك إعجابٌ صادق برواية «ابنة ليليت» وبالمشهد الروائي السعودي عمومًا، وهو ينهض بثقة ويشغل موقعًا متقدمًا في الثقافة العربية. ودافعٌ آخر شخصي: امتنانٌ لكاتبها أحمد السماري الذي تفضّل بإرسال روايتيه إليّ بالبريد؛ تلك لفتة كريمة تصل بين «بلاد الشمس الدافئة» هنا و«بلاد الثلج» في الشمال الأوروبي حيث أقيم، وتفتح دربًا من المعرفة يتجاوز الجغرافيا. صدرت «ابنة ليليت» عن دار رامينا عام 2024، وهي مؤلف من أربعة فصول تبدأ ب«الرياض 1980» وتنتهي ب«الرياض 2011 ». وقد بلغت اليوم طبعتها الثالثة، كما فازت بمسابقة جمعية الأدب المهنية ل«تحويل الرواية السعودية إلى سيناريو سينمائي» ؛ وهذان مؤشران على حيوية التلقي ووجاهة الأسئلة التي تطرحها الرواية. تسير الرواية في بنية دائرية حلزونية: تعود النهاية إلى نقطة البداية، لكن على مستوى أعلى معرفيًا ووجوديًا. البطلة جواهر -بعقلها الوقاد وتفوّقها- تتعرض لتمييز واضح لكونها امرأة، ولأن أمها هندية عاملة منزلية. تختار طريق العلم والهجرة إلى الولاياتالمتحدة، فتغدو جورجيت، أود. جي جي، وتحقق حضورًا أكاديميًا وعمليًا مرموقًا، ثم تعود إلى الرياض وقد صارت بدايةً جديدة لا رجوعًا إلى الوراء. في هذا القوس، تلمحالقراءةُ تحوّلًا موازيًا في المجتمع السعودي وصورة المرأة فيه؛ تطورًا أتابعه شخصيًا بإعجاب، وهو يتخلق في التفاصيل اليومية. تُبثّ فكرة الفردانية في نسيج الرواية من غير افتعال؛ تُعلن جورجيت بوضوح أن بوصلتها هي «الكلمة المقدسة: ذات» (ص 30)، لا بوصفهاانكفاءً أنانيًا، بل مشروعًا للنهضة الشخصية التي لا تزدهر إلا في فضاءالحرية والمسؤولية. وفي المقابل، تقدّم الرواية شخصية الدكتور عبد الله طالب (دونالد باول كول سابقًا) بوصفه نقيضًا جدليًا؛ انتقاله من اسم إلى آخر، ومن فضاء إلى آخر، يعكس نقاشًا حيًا بين فردانية خلّاقة وجماعية مقلّدة. بهذا الحوار تتجاوز الرواية ثنائية «شرق / غرب» السطحية إلى سؤالمعرفي: كيف تُبنى الذات في صراع القيم وتبادلها؟ يُضيء العنوان -وما يختزنه من رمزية ليليت- أفق التمرد النسوي على قوالب السلطة الأبوية. غير أن الرواية لا تُدين الشرق لتبرّئ الغرب؛ إذ تفضح سرديًا أوجه العنف الرمزي والمادي في السياقين معًا: اغتصاب زميل، وزوج مسيء، وتفكك روابط عائلية في مجتمع مفرط الفردانية. بذلك يتحول التمرد من شعار إلى خبرة معيشة تُصاغ لغويًا عبر صوتين نسويين يمتلكان أدوات السرد والاقتراح الأخلاقي. تُروى الأحداث بضمير الأنا عبر جواهر/ جورجيت وميلا. تمنح هذه التقنية قربًا عاطفيًا وصدقًا معرفيًا، وتخلق -بحكم محدودية منظور الأنا- توترًا وتشويقًا يوازيان حركة الاكتشاف. تتخذ ميلا مسارًا عكسيًا: منفضاء ما بعد الحداثة إلى البحث عن عائلة متوازنة ومعنى الانتماء. هذا التوازي بين رحلتين يضاعف أسئلة الهوية والذاكرة، ويجعل اللقاء المتأخر بين الأم والابنة استعادةً لمعنى العائلة لا عودةً نوستالجية. لا تُقدّم الرواية بطلة خارقة. نرى جواهر في تجلياتها المتعددة: قوة وضعفًا، قرارات صائبة وأخرى مكلفة، نوبات اكتئاب، وعلاقة غيرموفقة. هذا التشريح الإنساني يهب الشخصية صدقيتها، ويشدّ القارئ إلى تجربة ملموسة لاخطابًا مُنمقًا. في المقابل، يراكم السردنجاحاتٍ ومعرفةً ومسؤولية؛ مشروعُ ذاتٍ تتعثر لتتعلم، ثم تنهض. تتجرأ الرواية على منطقة شائكة: الصورة النمطية للعاملة المنزلية الأجنبية، وانعكاسها على نظرة المجتمع إلى أبناء هذا التمازج. تضع جواهر -ابنة الأم الهندية- معيارًا بديلًا للتراتبالاجتماعي عبر الإنجاز والمعرفة، وتعرّي خلل الحكم القائم على الأصل والعرق والمهنة. هنا يتجلّى بعدٌ أخلاقي رفيع في الكتابة، لا شعارات فيه، بل بناء درامي يُقنع بالتجربة. لغة الرواية سلسة محكمة، تتقدّم بثبات من فكرة إلى أخرى ومن مشهد إلىتالٍ، بلا إسراف لغوي أو حشو. الحبكة متينة، تتدرّج توتراتها بذكاء، ويخدمها الاقتصاد السردي والانتقالات المدروسة بين صوتي الأم والابنة. اختار الكاتب ضمير الأنا لأنه الأقدر على كشف الطبقات النفسية الدقيقة؛ فأتاح له ذلك الغوص في تأملات الشخصية وتناقضاتها من غير تقريرية. «ابنة ليليت» تعبر عن حكاية شخصيتين؛ وتغدو نشيدُ كفاحٍ نسائيٍّ يخصّ الملايين حول العالم، خاصةً في البيئات التي تُقيّد حركة المرأة ورؤيتها لذاتها. ومع أن الرواية تُقدّم مرآة ناقدة للمجتمع، فإنها تفتح باب الأمل عبر التعليم والعمل والاختيار الحر. بلوغها الطبعة الثالثة وفوزها بمسابقة جمعيةالأدب المهنية دلالة على أن أثرها تعدّى القراءة إلى قابلية التحويل البصر؛ الحكاية مرشّحة لسطح الشاشة بما تحمله من صراع ونموّ وتحوّل. بين الرياض ونيويورك، بين الانتماء والاقتلاع، بين اسمين وصورتين، ترسم«ابنة ليليت» رحلةَ ذاتٍ تصنع نفسها وتعيد تعريف علاقتها بالعالم. إنهارواية تُحسن الإصغاء لصوت المرأة وهي تعبر خنادق التقاليد وحدودالجغرافيا، وتعود -في حلزون المعرفة- إلى نقطة البدء وقد صارت أوسع أفقًا وأشدّ رسوخًا. هذا عملٌ يُحسب للرواية السعودية الجديدة، كتابةً ورؤيةً وأثرًا.