تطهير أكثر من 69 مليون متر مربع من الأراضي اليمنية في بلدٍ مزّقته سنوات من الحرب، وتحوّلت أرضه إلى حقول للموت، يعمل مشروع "مسام" السعودي لنزع الألغام على إعادة الأمان إلى الأرض والإنسان في اليمن، منذ إطلاقه عام 2018 بمبادرة من مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية، يتقدم "مسام" كأحد أبرز المشاريع الإنسانية العاملة في الميدان، مستهدفًا الألغام والعبوات الناسفة ومخلفات الحرب التي خلفتها الميليشيات في مناطق عدة من اليمن. «مسام» ليس مجرد مشروع تقني لنزع الألغام، بل هو جهد إنساني متكامل، هدفه إنقاذ الأرواح وتهيئة بيئة آمنة لعودة السكان وممارسة حياتهم الطبيعية. المشروع يعمل بالشراكة مع البرنامج الوطني اليمني للتعامل مع الألغام، ويضم فرقًا ميدانية مدربة على أعلى مستوى. كما يستعين بخبرات دولية وتقنيات حديثة لرصد وتفكيك مختلف أنواع المتفجرات، وفق المعايير الدولية المعتمدة في هذا المجال. ومنذ انطلاقته، تمكن المشروع من تطهير آلاف الكيلومترات المربعة في مختلف المحافظات اليمنية، وإعادة الحياة إلى مناطق كانت محرّمة على السكان بسبب انتشار الألغام. في كل متر يُطهّر، تُمنح عائلة يمنية فرصة جديدة للعيش بأمان، وفي كل لغم يُزال، تُكتب حياة جديدة لطفل أو مزارع أو راعٍ كان يجهل الخطر الكامن تحت قدميه. وتُظهر قصص الأهالي أن وجود مسام في مناطقهم ليس مجرد حملة تقنية بل هو تغيير حقيقي في نمط الحياة. كثير من الأهالي الذين أجبروا على ترك منازلهم قسرًا، عادوا إليها بعد تطهيرها، ليستأنفوا حياتهم اليومية في أمان. المدارس التي أُغلقت أبوابها بفعل الألغام، أعيد فتحها بعد أن قامت الفرق الهندسية بمسحها وتأمين محيطها، مما سمح للأطفال بالعودة إلى مقاعد الدراسة في بيئة آمنة. أرقام تعكس حجم الكارثة البيانات الصادرة عن مشروع مسام حتى منتصف أغسطس 2025 تكشف عن حجم الجهد المبذول، وحجم المأساة التي خلّفتها الألغام في اليمن، أكثر من 510 آلاف لغم وعبوة ناسفة وذخيرة غير منفجرة تم نزعها خلال سبع سنوات من العمل المتواصل، وتشير الإحصائيات إلى تطهير أكثر من 69 مليون متر مربع من الأراضي، وهي مساحة شاسعة كانت تهدد حياة آلاف اليمنيين يوميًا. خلال النصف الأول من شهر أغسطس وحده، تمكّنت الفرق الميدانية من نزع نحو ثلاثة آلاف لغم وعبوة ناسفة وذخيرة غير منفجرة ، وتطهير ما يزيد على 580 ألف متر مربع، هذا التقدم الميداني يعكس وتيرة العمل المتسارعة للمشروع، في ظل ظروف ميدانية وإنسانية صعبة. ولا تتوقف أهمية هذه الأرقام عند حدود الإنجاز الفني، بل تعكس حجم الكارثة التي يواجهها اليمنيون، آلاف المزارع باتت صالحة للاستخدام من جديد، ومئات الآبار التي كانت مهجورة بفعل العبوات المفخخة، أصبحت تمدّ القرى بالماء، إن كل عملية تطهير هي بداية جديدة لقرية أو منطقة كانت خارج حدود الحياة. تضحيات خلف الكواليس لم يكن هذا النجاح ممكنًا دون تضحيات جسيمة قدمها العاملون في الميدان. فقد خسر المشروع أكثر من ثلاثين من أفراده، بينهم خمسة خبراء أجانب، أثناء تأدية مهامهم الإنسانية، هؤلاء الضحايا استشهدوا وهم يحاولون أن يعيدوا لليمنيين حقهم في أرض آمنة خالية من القتل الكامن، كما أُصيب العشرات من أعضاء الفرق الهندسية بإصابات متفاوتة. في اليوم العالمي للعمل الإنساني، والذي يوافق 19 أغسطس، وجّه مشروع مسام رسالة تقدير للعاملين في المجال الإنساني، مؤكدًا أن تضحياتهم لا يجب أن تمرّ بصمت، ودعا المجتمع الدولي إلى توفير مزيد من الحماية والدعم لهؤلاء الأبطال، الذين يواجهون الموت بصمت من أجل أن يعيش الآخرون. بيئة ملوثة ومخاطر مستمرة يُعد اليمن من أكثر دول العالم تلوثًا بالألغام، بحسب تقارير أممية، وتُقدّر الجهات المختصة عدد المتأثرين بهذه الآفة بأكثر من 19.5 مليون شخص، بينهم نساء وأطفال ومزارعون ونازحون. الألغام لا تميز بين هدف عسكري ومدني، وبين طريق عامة ومرعى أغنام أو حقل زراعي، ولهذا يشكّل انتشارها عائقًا كبيرًا أمام عودة الحياة إلى طبيعتها، خصوصًا في المناطق المحررة حديثًا. وفي إحدى الشهادات الميدانية المؤثرة، روى مزارع من محافظة تعز كيف عاد إلى أرضه بعد سنوات من النزوح، ليجدها مفخخة. قال: «ظننت أن الحرب انتهت حين سكت الرصاص، لكن الأرض نفسها كانت تقتلني»، فقد انفجر به لغم أثناء حرثه أرضه، وأدى إلى فقدان ساقه. ومن المواقف اليومية أيضًا ما تسرده فرق التوعية التابعة للمشروع، التي تصل إلى المدارس لتقديم جلسات توعوية للأطفال، مستخدمين وسائل تعليمية بسيطة توضح كيفية التعرف على الألغام أو الابتعاد عنها. هذه الجهود الوقائية تمثل جزءًا لا يتجزأ من المشروع، إذ لا يكفي إزالة الألغام، بل لا بد من بناء وعي دائم لدى المجتمع، خصوصًا في القرى النائية. دعم سعودي مستمر وشراكة محلية يحظى مشروع مسام بدعم مالي ولوجستي مباشر من مركز الملك سلمان للإغاثة، ويُدار بالتعاون مع البرنامج اليمني لنزع الألغام، ويعمل المشروع على تدريب وتأهيل الكوادر اليمنية، لنقل المعرفة والخبرة الميدانية. ويؤكد مدير عام المشروع، أسامة القصيبي، أن "مسام" ليس مجرد مهمة وقتية، بل التزام إنساني مستمر من المملكة تجاه الشعب اليمني، ويهدف إلى إزالة كل ما يعيق الأمن والتنمية في البلاد. ويضيف أن نزع الألغام هو الخطوة الأولى نحو إعمار اليمن، وأن النجاح في هذه المهمة يتطلب تعاونًا دوليًا واسعًا، لا سيما مع حجم التلوث الذي تشهده مناطق عديدة، وبالإضافة إلى ذلك، يقوم المشروع بدور محوري في بناء قدرات وطنية داخل اليمن. حيث يتم تدريب الفرق المحلية على استخدام أجهزة كشف الألغام، وإدارة عمليات المسح، والتعامل مع أنواع متعددة من المتفجرات. هذه الخطوة الاستراتيجية تهدف إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي تدريجيًا، بحيث يُصبح لدى اليمن طواقم ميدانية قادرة على حماية البلاد بشكل دائم، حتى بعد انتهاء دور المشروع لاحقًا. ويظهر أثر «مسام» بشكل خاص في المناطق المحررة، حيث تكون البنية التحتية مدمرة بشكل كبير، ويكون التحدي مضاعفًا. فإلى جانب تطهير الأرض، تعمل فرق المشروع على تنسيق مباشر مع الجهات الإنسانية الأخرى لتسهيل دخول المساعدات، وفتح الطرق، وتمكين السكان من العودة إلى منازلهم، الأمر الذي يسهم في تسريع وتيرة التعافي في تلك المناطق. أحد العاملين في مسام يقوم بعملية استخراج قذيفة غير منفجرة التوعية بمخاطر الألغام أثناء التجهيز لعملية تفجير الألغام والعبوات الناسفة والذخيرة غير المنفجرة في اليمن تقرير - صلاح السليماني