مثلُكَ أنا أتذكرُ يوم الجمعة حين أشم رائحة العود، وفي السفر أتذكر أمي إذا تذوقت القهوة السعودية، وأسترجع المناسبات السعيدة إذا رأيت بشت والدي، وأظلّ أتساءل: هل هذه الرموز الثقافية تمدني بالشعور لذاتها؟ هل يشعر بها الزائر في معارضنا الكبرى كما نشعر بها؟ أم أن هناك سياقًا تكرر علينا حتى شكل لنا سردية ثقافية محليّة؟ لا أزال أتذكر عدد المرات التي حضرتُ فيها معارضَ وفعاليات، وحضرت رموزنا الثقافية من غير سياق وبلا سردية، جاءت محنّطةً من الماضي بلا روح. الإرث وحده لا يكفي! تمتلك السعودية كنزًا حضاريًا لا يُقدّر بثمن، هذا الكنز لا يتحول تلقائيًا إلى سردية، الإرث وحده لا يكفي! لا بد أن يُنسج عبر عدسة معاصرة تفهم آليات الإدراك العالمي، وتُحسن توظيف رموزنا العميقة، فلك أن تتصور معي قصة طريق البخور لا بوصفه مجرد مسارٍ تجاري بل بنيةً تحتية حضارية صنعت الروابط بين الشعوب وأسسّت لتبادل معرفي وإنساني سابق لعصره. إرثنا الحضاري قادرٌ على أن يبث الإنسان السعودي في المكان بدلًا من أن يلقي علينا المعلومات، فالقهوة السعودية ليست بالبنّ والمحصول بل برمزية الكرم وبروتوكلات الضيافة فيها، فقبل أن نخبر الزائرعن تاريخ رحلة الشتاء والصيف يدرك كيف استمر أثرُ التعايش الإنساني فينا، حينها فقط ... يصبح الماضي قابلًا للتمدد في الحاضر، وتصبح الذاكرة ثروةً سيادية تُغذي سردية المكان، وهنا يأتي السؤال الأشمل والأكثر إلحاحًا: ما الذي يجعل زائرًا يعود من رحلة قصيرة وقد تغيّرت نظرته للعالم؟ّ! ليست الصور ولا الذكريات الشخصية بل السردية التي عاشها دون أن يخبره أحدٌ بها، فهي لا تُحكى بل تُبنى، هي تجربة مركبّة تُصاغ بعناية من المشاهد المتناغمة ونبرة الصوت وخيارات التصميم وشخصية إنسان المكان، إنها خطاب غير منطوق يتجاوز تأثيرها القصة التقليدية، تتجاوز الحدث لتخلق سياقًا وموقفًا وهُوية لا مجرد حبكة، السردية أداةٌ لتوجيه الوعي تتموضع بها الحقيقة من زاوية الراوي، لا تحكي عن الماضي ولا تسلسل الزمن، هي مستمرةٌ حاضرةٌ بأبعادها الحضارية والدبلوماسية. السردية بهذا المعنى لا يصنعها راوِ واحد، بل تتطلب تآلفًا بين استلهام المثقف الذي يدرك عمق التاريخ وسيميائية المكان، والمختص الاتصالي الذي يجيد هندسة المعنى وتوجيه الانتباه، بهذا التآلف تولد سردية متماسكة تمتد في الزمان والمكان، وتصبح قادرةً على بناء انطباع وتشكيل إدراك وإعادة توزيع الوعي، لم تعد الحقيقة وحدها كافية في هذا العصر، بل أصبح التأثير أهم من صناعة الحدث ذاته، من يحسن سرديته يُحسن قول نفسه ومن يحسن قول نفسه يحسن موقعه في ذهن العالم، وهنا يبرز التحدي أمامنا: كيف نحسن قول السعودية بلا بصوت مرتفع وبلا رسائل مباشرة بل بسردية متزنة تتسلل إلى الزائر كما تتسلل الموسيقى في مشهد سينمائي محبوك؟ إكسبو الرياض 2030 الاختبار الأبرز لسردية المكان اكسبو الرياض 2030 ليست فعاليةً ضخمة فحسب، بل فرصة ذهبية لاختبار القدرة السردية للسعودية على المسرح الدولي؛ هل سيقرأ الزائر كتيبًا عن المكان وتاريخه أو كلمات متناثرة هنا وهناك مزخرفة على الجدران؟ أم سيعيش تجربةً تشكل لديه قصةً غير منطوقة، من طريقة استقباله، إلى تصميم المسارات، إلى رائحة المكان، إلى المشهد اللغوي والإشارات البصرية والسمعية التي تلاحقه في التفاصيل المتراكمة؟ حينها تُغرس الفكرة في الزائر من دون تلقين، ويزرع الانبهار من دون افتعال. فماذا لو أدركنا أن اكسبو الرياض 2030 ليس مناسبة لعرض إنجازاتنا فقط، بل فرصة لإعادة تشكيل السعودية في الوعي العالمي، هنا في الرياض يمكن أن نبني سردية تتجاوز الرموز التقليدية كالقهوة السعودية والسدو والتمر والإبل -رغم أهميتها- إلى السياق العالمي الأعمق إلى الوجدان، هذه الأرض تحتضن طبقاتٍ أعمق من الرموز الجامدة تحتضن في ذاكرتها الأسواق وخطوط التجارة والممالك القديمة وفرادتها الجغرافية وهويتها البصرية التي تنقل صوت الصحراء إلى العالم. ختامًا.. ليس السؤال: ماذا سنعرض؟ بل كيف سنسرد؟ ومن سيكتب السردية؟ إنها لحظة وطنية تتطلب أصواتًا تفهم العمق وتتقن الرواية، وتجمع بين التوظيف الاتصالي، والبُعد الثقافي، والقدرة على قول الذات بلغة يفهمها العالم، وإذا كانت السرديات اليوم تُبنى من تجارب صغيرة متراكمة، فإن بناءها في إكسبو الرياض 2030 يحتاج إلى فريق يجيد تطريز القصة دون أن ينهيها، يترك للزائرأن يتمّها بنفسه، وتنتهي الزيارة ولا تنتهي القصة في وعيه ووجدانه.