جرت العادة أن يجمع المؤرخ مصادره المعرفية ومراجعه ويستخرج معلوماته منها، وينقحها، ثم يقدم منتجه التاريخي النهائي في قالب سردي تاريخي يعرف بالكتابة التاريخية. فإن كان هذا المنتج سينشر في شكل بحث في احدى الدوريات المتخصصة المحكمة فإن الباحث سيحصل على أراء اثنين من المحكمين لمراجعة وتقويم ماورد في بحثه، أما إن كان النشر سيكون على شكل كتاب فغالباً لن يحصل على رأي قراءه إلا بعد عملية النشر، وهذه العملية -كما يعلم المتخصصون- فيها من المشقة ما فيها، ومع دخولنا العصر الرقمي حاول بعض المؤرخين لا سيما في الدول الغربية استثمار معطيات هذا العصر لصالح كتابتهم التاريخية، ويمكن أن نستحضر هنا مشروع "كتابة التاريخ في العصر الرقمي"، وهو مشروع تجريبي امتد لشهر واحد في أكتوبر 2010م، هدف هذا لمشروع إلى إعادة التفكير في الممارسات التقليدية للبحث والكتابة والنشر، وكذلك في الآثار الأوسع للتقنية الرقمية على مهنة المؤرخ وذلك من خلال كتابة مقالات طويلة على هيئة فصول على يد طيف واسع من المؤرخين وطرحها على منصة ووردبريس، ولم يقتصر الموضوع على هذا الحد بل أتيحت الفرصة للقراء للمشاركة وإبداء الرأي من خلال السماح لهم بإضافة تعليقات على مستوى الفقرات في الهوامش، مما حوّل العمل إلى نصوص شبكية اجتماعية. وقد حقق هذه المشروع مستهدفاته من خلال استقطب القراء، والتعليقات، والزوار للموقع من مختلف أنحاء العالم. وبعد فترة من المراجعة التشاركية والنقاش العلمي ظهر المنتج النهائي على شكل كتاب احتوى على عشرين مقالة كتبها مجموعة واسعة من الباحثين المرموقين، كل واحد منهم يدرس -ثم يعيد تفكيك ودراسة- الكيفية التي غيّرت بها التقنيات الرقمية والناشئة طرق تفكير المؤرخين وتدريسهم وكتابتهم ونشرهم. ومن بين هذه المقالات: Re-Visioning Historical Writing(إعادة تصور الكتابة التاريخية): وتبحث هذه المقالة في كيفية تحدي الوسائط الرقمية للسرديات التاريخية التقليدية. و Crowdsourcing & "Wisdom of Crowd (العمل الجماعي وحكمة الجماهير: مقالات تتناول ويكيبيديا، والمنح الدراسية الشعبية، وديمقراطية المصادر التاريخية). ومقالة Pedagogy & Practice(البيداغوجيا والممارسة: مساهمات حول تدريس التاريخ الرقمي، والكتابة عبر منصات الويب، ودمج الممارسة في التعليم). ومقالة Data, Visual, Spatial, and Game-Based History (التاريخ القائم على البيانات، والوسائط البصرية، والمكانية، والألعاب) وتعالج استخدام تصوّر البيانات، والخرائط، والمحاكاة بالألعاب، والوسائط المعزَّزة في صياغة السرديات التاريخية. وكذلك مقالة Collaborative Writing & Blog Culture (الكتابة التعاونية وثقافة المدوّنات) وتلقي الضوء على الكتابة غير الرسمية، والتدوين الأكاديمي، والتأليف التشاركي، والتعليقات المفتوحة الأقران، لقد عزز هذا المشروع من القناعة في تطوير الكتابة التاريخية من خلال توظيف التقنية، بل وقلب هرم الكتابة التاريخية التي كانت تبنى على التنقيح ثم الكتابة لتصبح تبنى على الكتابة ثم التنقيح والهدف هو تعزيز المشاركة والنظر إلى الموضوعات التاريخية من زوايا أكثر. ويبقى السؤال لو تم هذا المشروع على المستوى الوطني أو العربي هل سينجح؟ ولماذا؟