بلادنا حفظها الله وحفظ قادتنا الذين يدركون مدى أهمية هذه الحرف وهذا التراث، خشية أن يزحف عليه الزمن، وتزحف عليه المدخلات الخارجية، مما جعلهم يحتفلون هذا العام بعام الحرف، لأنها لا تمثل مجرد الاحتياجات اليومية لأسلافنا، وإنما تحمل في طياتها تاريخاً وفلسفة وتكويناً لهويتنا ولشخصيتنا التي سيتدارسها الدارسون في الأزمنة اللاحقة إذا ما حافظنا عليها وأحيينا عناصرها عاماً بعد آخر. بما أننا نحيا هذه الأيام في احتفالية الحرف اليدوية، فلنا أن نأخذ بعض المقتطفات منها احتفالاً وزهواً، لما تحمله من أهمية كبرى سواء على المستوى الثقافي أو على المستوى الاقتصادي، وكذلك الفلسفي، لتكوين هوية المجتمعات. فإذا ما تحدثنا عن الحرف اليدوية في أي مجتمع، فإننا نتحدث عن مكنون شخصيته وعمق تكوينها وليس من أجل ما تعنيه احتياجاتها اليومية على المستوى الأول فقط وهو كذلك، ولكن لها مستوياتها الفكرية والفلسفية والسسيولوجية التي يجب أن نتحدث عنها ويجب على الدارسين البحث عنها في كل أيقونة، من حيث الشكل والمضمون، ومن حيث الخط والكتلة واللون، ومن هنا يخرج لنا ذلك البعد السسيولوجي الذي تنضح به الشخصية في هذا المجتمع أو ذاك. وعلى سبيل المثال: حرفة القط، التي تناولناها في مقال سابق، وكيف أنها تنم عن أبعاد اجتماعية واقتصادية وثقافية، كما وضحناها في ذلك المقال، ولاتساع رقعة المملكة العربية السعودية وامتداد مساحتها جعلتها تزخر بتعدد التراث واختلاف ألوانه ومزاياه وتعدد فلسفاته ومعانيه التي لو اتخذناها بدراسات دقيقة لامتلأت المكتبات ومالت الأرفف بما لا تطيق حمله، فلكل منطقة من مناطقها لون مختلف من التراث ومن الحرف، والتي فرضته عليه سلطة المكان والموقع الجغرافي. وإذا تناولنا في هذا الصدد صناعة (المزند)، وهو أثوب المرأة في المنطقة الجنوبية، وأحياناً يطلقون عليه الثوب العسيري، وللمزند قصص وأساطير في تنوع صناعته، وطقوس احتفالاته، والمادة الخام التي يصنع منها، والذي بدأ -للأسف الشديد- يطرأ عليه نوع من الزيف المقلَد والمستورد مما لا يطابق قيمة هذا الثوب المزند الذي أصبح نادراً كأيقونة في وقتنا هذا؛ إذ إن له مواصفات، وقصات، وتطريز، وألوان في تطريزه بالغة الخصوصية. وهذا الزي هو من أزياء المرأة في المنطقة الجنوبية، وقد كان يصنع في بداية الأمر من قماش المبرم لدى الأسر ميسورة الحال، وأحياناً تتسنى الظروف لصاحبته فتقوم بصباغته، إلا أن الأمر يختلف تماماً عند نسوة الصفوة والعرائس والأثرياء، حيث يتنوع قماشه إما من "الحَبَر" أو القطيفة أو المخمل، ويسمى المزند لأنه يعني حائكيه ومصمميه بضيق منطقة الخصر واتساع الأطراف، فيبدو ضيقاً في منطقة الخصر والأكمام وواسعاً في منطقة الصدر، وشديد الاتساع من أسفل الثوب، ويتكون من عدة قصات. وفي مرحلة التنفيذ، يحضر المصمم والحائك (الحرفي) ضيفاً مقدراً على العائلة لعدة أيام وربما أسابيع، لأنه يحيكه بأكمله بيده دون تدخل أي آلة ثم يقوم بتطريزه بألوان الخيوط الحريرية وخيوط القصب الحُر. ومن خصائصه ما يسمى بالبدن: وهو مستطيل بعرض الأكتاف ويمتد إلى أسفل، وفتحة العنق مستطيلة من الأمام دائرية من الخلف، مضافاً إليه ما يسمى بالجنوبي: وهي مثلثات من القماش، تتلاقى رؤوسها عند الخصر، وتنطلق نحو الأسفل، بحيث تترك مجالاً واسعاً في مذيلة الثوب، وتساهم في تضييق منطقة الخصر، وتلتقي جميعها عند الخاصرة في مربع صغير يصل البدن الأمامي والخلفي معاً، وتتعدد قصات الجنوبي حسب قدرة صاحبة الثوب على توفير القماش المطلوب، فأحياناً يصل تعداد الجنوبي إلى مائة جنب أي مئة مثلث، وأحياناً إلى ثلاث مئة جنب فيبدوا باذخاً أخاذاً يكون مهيئاً لوضع الحزام في الخاصرة. ثم تأتي الأكمام الضيقة من المعاصم والمتسعة من الأعلى ذات فتحات خاصة عند الكوعين. وكما أسلفنا أن لكل أيقونة تراثية فلسفتها السسيولوجية التي تعبر عن مكنون الشخصية، وعن سلطة البيئة المحيطة بها، فإذا تأملنا هذا الزي من حيث المادة، فسنجد أن نساء الأثرياء وسيدات المجتمع يرتدينه من المخمل أو من القطيفة أو الحَبَر وهو من أغلى أنوع القماش، ثم إن الوفرة في استخدام الخيوط الحريرية وخيوط القصب الحر لا تتوفر لدى العامة من النساء، بينما نساء العامة يجعلونه من قماش المبرم وهو ما يطلق عليه (الدمور) ثم يصبغونه باللون الكحلي إن توفر ذلك، هذا على مستوى البعد الاقتصادي. ثم ندلف إلى ألون الخيوط الحريرية التي يطرز بها هذا الثوب، والذي تتفرد به المنطقة الجنوبية، فسنجدها ذات ألوات مختلفة فاقعة وصارخة وتملأ الصدر واليدين، وحتى قصات الجنوب أسفل الثوب، فيبدو زاهياً فاقعاً، وهذا يرجع إلى انعكاس تلك البيئة المحيطة بالشخصية، إذ إنها بيئة مزهرة ومشجرة وممطرة ومعشبة ومورقة، كما أنها مشمسة غير غائمة، وهذا يردنا بطبيعة الحال إلى وضوح الشخصية وصفائها. كما أننا نجد الملمح العقائدي في هذا الزي، وهو تلك الفتحة التي تعلو منطقة الكوع، لأنها قد صممت من أجل إخراج اليدين حين الوضوء، فالكم ضيق كما ذكرنا من ناحية المعصم، مما جعلهم يصممون تلك الفتحة لتخرج المرأة يدها لكي تكمل وضوءها، ويطلقون عليها اسم (المنادر). وذلك فإن بلادنا حفظها الله وحفظ قادتنا الذين يدركون مدى أهمية هذه الحرف وهذا التراث خشية أن يزحف عليه الزمن وتزحف عليه المدخلات الخارجية، مما جعلهم يحتفلون هذا العام بعام الحرف؛ لأنها لا تمثل ما ذكرنا سلفاً مجرد الاحتياجات اليومية لأسلافنا، وإنما تحمل في طياتها تاريخاً وفلسفة وتكويناً لهويتنا ولشخصيتنا التي سيتدارسها الدارسون في الأزمنة اللاحقة إذا ما حافظنا عليها وأحيينا عناصرها عاماً بعد آخر.