ما زال يقبع في ذاكرة طفولتي شيء من حكايات والدتي قبل النوم عن «أم صخر»، التي لم تكن كما اكتشفتُ لاحقًا إلا كنيةٌ لطائر البوم، ناهيكَ عن «أم السعف والليف» التي كان إدراكي الصغير يجعلني أتوقف عند جرسها اللفظي وحمولتها الصوتية المرعبة فقط، الأمر الذي غيّب عني فكرة أنّها النخلة.. هذه الحكايات المُمتدة فلكلوريًّا في ثقافتنا لم تكن للتسلية فحسب، بل بدت خطابًا والديًّا مُوجَّهًا لِحَضِّنا على النوم والكف عن السجال، والتفكير في عواقب التمرد وعدم الامتثال. ولكن ماذا بعد الحكاية؟! فما إن تنقضي الحكاية وتغط والدتي في نومها بعد رحلة يوم شاق حتى تبدأ خيالاتنا التي لا تنضب ولحظات تأملنا في سهادنا الصغير بالتّدفق.. نُحدّق في جدارٍ مشروخ وسط الظلام، فإذا بالشقوق تتخذ هيئة أم صخر، أو أنّ أمّ السعف والليف المنسية خلفه تُحاول أن تبدي شيئًا من أنيابها بين الثقوب.. هذا ليس سحرًا ولا جنونًا، بل هو الباريدوليا (Pareidolia): ميلٌ دفين في النفس إلى أن ترى المعنى حيث لا معنى، والهيئة حيث لا هيئة، والصوت حيث لا صوت. فالباريدوليا تمثّل ظاهرة نفسية يُدرك فيها الإنسان أنماطًا مألوفة غالبًا مثل وجوهٍ أو أشكالٍ رمزية في أشياء غير حيّة أو عشوائية، إنها وظيفة ذهنية تُعبّر عن ميل طبيعي للربط والتفسير، وهذه الظاهرة لا تقتصر على الإدراك الفردي فقط، بل يُمكن أن تؤثر بعمق في الثقافة. ولكن، أليس هذا هو جوهر التأويل أيضًا؟ أليست الباريدوليا نوعًا من «القراءة»؟ إنّنا نُحمِّل الغيوم شكل حصانٍ هارب، ونرى وجهًا في القمر، ونسمع نغمة موسيقية في ضجيج مروحة، ثم إننا نُحمّل النصوص ما لم تقله أيضًا! وكأنّ الباريدوليا تكشف عن هذا الجوع الإنساني العميق للمعنى، ذاك أنّ الإنسان بطبعه لا يُطيق الفراغ، ولا يُحبّ أن يرى الصدفة عارية، فيُلبسها قناعًا أو وجهًا أو صوتًا، أو حتى معجزةً. وهكذا يصبح التأويل امتدادًا لباريدوليا كونية، تجعل من العالَم كتابًا مفتوحًا، ومن الذهن قارئًا لا يكفّ عن التساؤل، فالتأويل في جوهره ليس سوى محاولة لفهم ما وراء الظاهر، فيسعى الإنسان بطبيعته لتأويل ما يحدث حوله ليربطه بقصة أكبر. ولذا يبدو أنّ الباريدوليا والتأويل كلاهما يُظهِران ميل الإنسان إلى اكتشاف المعنى حتى في الأماكن التي قد تكون خالية منه موضوعيًا، فكما أن الباريدوليا تُحوّل بقعة رطوبة على الجدار إلى وجه، فإن التأويل قد يُحوّل جملة عابرة إلى حكمة، أو حدثًا عاديًا إلى علامة كونية، ومن هنا يُصبح التأويل تجربة شخصية لا تقل ذاتية عن رؤية وجهٍ في بقعة رطوبة على جدار. وبالعودة إلى حكايات والدتي.. فهي قد كانت تعرف كيف توقظ الباريدوليا فينا دون أن تُسمّيها؛ وكانت تروي لنا قصصًا نرى عبرها طيف وجهٍ في الدولاب، وامرأةٍ ذات شعرٍ طويل تُطلّ من المرآة، ويد أمٍّ تخرج من قبر لتحتضن صغيرها.. لم نكن نرى شيئًا بأعيننا، ولكننا كنّا نراه بكلّ جوارحنا، فكنّا نؤوّل الظلمة ونُحمّلها كلّ ما لا نجرؤ عليه. وليس ذاك من شيئ موجود بالفعل، بل لأن خيالنا وقد تشبّع بالحكاية بدأ بتفسير الأصوات والصور وفقًا للسياق الخرافي الذي غُرس بداخلنا. وهكذا كانت الحكاية تنبت في جدار الغرفة، وفي زوايا الذاكرة، وربما أصبحت جزءًا منّا، فهي وإن بدت خيالية أو مُرعبة إلا أنها كانت تُشكّل وعينا المبكر؛ حيث علاقتنا الأولى بالتأويل. ومع ذلك.. لا يُمكن إغفال الجانب السلبي لباريدوليا الطفولة حين تقترن بالخوف والرعب؛ حيث يُعاد تشكيل أذهاننا لتربط بين ما هو غامض وما هو مُهدّد. لذا فإن تنمية خيال الطفل عبر الحكايات أمرٌ ضروري غير أنّ الخيال الخصب حين يُغذّى بالخوف، فإنه يتحوّل إلى قيد لا إلى جناح، فهي وإن بدت فولكلورية بريئة إلا أنّها قد تُخلِّف آثارًا نفسية كالقلق والفوبيا والوسواس القهري، وانخفاض القدرة على التمييز بين الواقع والخيال. فبعض قصص الطفولة لم تكن حكايات، بل أفلام رعب تُسلَّط على عقولنا الصغيرة في عتمة الغرف. حيث لا تغدو الباريدوليا إبداعًا ذهنيًا، بل هلعًا يتكوثر داخلنا، ثم يكبر معنا، ويتسرّب إلى وعينا، فنخاف من الصمت، ونخشى النظر في المرايا، ونرتاب من الزوايا. إنّ الباريدوليا ليست مجرّد خلل إدراكي، بل ظاهرة تَعبُر إلى عمق الثقافة، وتؤثر في المعتقدات، وتُثري الفنون، وتُشكّل الذاكرة الجمعية، وتخلق الخطاب الموجَّه. إنها إحدى آليات الدماغ التي تُحوّل الفوضى إلى معنى، الأمر الذي يجعلها حاضرة دومًا في كلّ حضارة تبحث عن شكل في اللاشكل، ونظام في العشوائية. لذا يمكن القول إنّ الباريدوليا والتأويل وجهان لذات العملة التي سكّها الإنسان حين لم يحتمل العيش في عالم صامت، وربّما ساعدت الوالداتُ أحيانا على ذلك.