منذ 7 أكتوبر 2023م تحوّل الصحفيون في غزة إلى "شهودٍ غير مرغوب فيهم".. القتل والإصابات والاعتقال وتدمير البنية الإعلامية ومنع التغطية الأجنبية؛ كل ذلك رسم نمطًا واضحًا: إقصاء العيون التي توثّق ما يحدث، حتى باتت الحرب على غزة الأكثر فتكًا بالصحفيين في التاريخ الحديث. وأكدت اللجنة الدولية لحماية الصحفيين (CPJ) أن الحرب قتلت حتى 5 أغسطس 2025م ما لا يقل عن 186 صحفيًا وعاملًا إعلاميًا في كل من غزة والضفة الغربية ولبنان، بينهم 178 فلسطينيًا، ورصدت اللجنة نمطًا متكررًا بأن الضربات الجوية الإسرائيلية كانت السبب الأبرز للوفيات، كما وثّقت 20 حالة قتل استهدافي مباشر لصحفيين تعتبرها "جرائم قتل" لمقاتلين غير شرعيين. فيما رصد الاتحاد الدولي للصحفيين (IFJ) 175 صحفيًا وعاملًا إعلاميًا على الأقل قتلوا حتى 31 يوليو 2025م جراء الحرب، مؤكدًا أن غزة أصبحت منطقة الموت الأوسع للإعلاميين في العصر الحديث، وأشار الاتحاد إلى أن معظم الضحايا من الفلسطينيين، بينما هناك بضعة صحفيين أجانب ضمن القائمة. وبيّن مكتب الأممالمتحدة لحقوق الإنسان (OHCHR) في بيانات أنه تحقّق من مقتل 227 صحفيًا فلسطينيًا في غزة منذ 7 أكتوبر2023م، ويعكس هذا الرقم المرتفع اتساع الكارثة ويشير إلى أن الأعداد قد تكون أعلى مع مرور الوقت، خصوصًا مع صعوبة التحقّق الميداني في ظل القصف والحصار، ويُرجِع المكتب اختلاف الأرقام بين الجهات إلى تباين تعريف "الصحفي/العامل الإعلامي" ومعايير التحقّق وسرعة تحديث البيانات. سجلٌ من الاستهداف الممنهج وتعد هذه الحرب امتدادًا لنمط طويل الأمد من استهداف الصحفيين وإفلات الجناة من العقاب، فقبل حرب 2023–2025م، وثّقت لجنة حماية الصحفيين عبر أكثر من عقدين ما لا يقل عن 20 حالة قتل لصحفيين بنيران قوات الاحتلال الإسرائيلي دون أي محاسبة تُذكر، وهذا السجل المروّع من الإفلات من العقاب تصدر الواجهة العالمية باغتيال الصحفية شيرين أبو عاقلة في مايو 2022م، حين خلصت تحقيقات مستقلة لمنظمات إعلامية وحقوقية منها ( نيويورك تايمز وواشنطن بوست وسي إن إن) إلى أن رصاصة جندي إسرائيلي هي التي أصابتها في مقتل. ورغم ذلك، لم تُسفر التحقيقات الرسمية الإسرائيلية عن توجيه اتهام لأي فرد، الأمر الذي دفع المنظمات الصحفية الدولية إلى دعم عائلة شيرين وزملائها في رفع شكاوى إلى المحكمة الجنائية الدولية (ICC) بشأن قضيتها، مؤكدين أن إسرائيل لا يمكنها أن تحقق مع نفسها في جرائمها. وفي 13 أكتوبر 2023م تصاعدت الأدلة على هذا النمط الخطير عبر حدود غزة، وفي ذلك اليوم، ضربت قذيفة دبابة إسرائيلية مجموعة صحفيين في جنوبلبنان، مما أدى إلى مقتل مصوّر رويترز عصام عبد الله وإصابة ستة صحفيين آخرين من وكالات دولية، وأثبتت تحقيقات أجرتها وكالة رويترز ومنظمات كالعفو الدولية وهيومن رايتس ووتش أن طاقم دبابة إسرائيلية أطلق قذيفتين متتاليتين على الصحفيين رغم ارتدائهم سترات وخوذ تحمل علامة "PRESS". وخلصت المنظمات الحقوقية إلى أن هذا الهجوم بدا متعمدًا على مدنيين واضح تمييزهم كصحفيين؛ مما يجعله جريمة حرب وفق القانون الدولي، ورغم النفي الإسرائيلي المعتاد "نحن لا نستهدف الصحفيين"، لم يُفتح تحقيق شفاف أو تُحمّل أي جهة مسؤولية عن قتل عصام ورفاقه حتى اليوم. إسكات البنية الإعلامية ولم يقتصر الاستهداف على الأفراد، بل تعداه إلى الهياكل والمنابر الإعلامية نفسها، ففي 15 مايو 2021م خلال حرب غزة آنذاك، شنّت إسرائيل غارة جوية دمّرت برج الجلاء في مدينة غزة، والذي كان يضم مكاتب وكالة أسوشييتد برس (AP) وقناة الجزيرة وغيرها، وعلى الرغم من أن الجيش الإسرائيلي زعم حينها أن البرج كان يستخدم من حماس لأغراض عسكرية، لم يُقدَّم أي دليل علني مقنع يدعم هذا الادعاء، وطالبت AP بتحقيق مستقل في الغارة، مؤكدةً أن إسرائيل لم تُظهر أي إثبات يبرر تدمير مقرّ صحفي دولي بهذا الشكل، واعتُبر تفجير برج الجلاء رسالةً صارخة مفادها أن أي منصة تنقل الحقيقة قد تصبح هدفًا للصواريخ. ولاحقًا، ومع ذروة حرب 2023–2025م، اتخذت إسرائيل خطوات قانونية وإجرائية لإسكات التغطية الإعلامية غير المرغوبة، فقد أقرت سلطات الاحتلال قانونًا جديدًا يتيح حظر وسائل الإعلام الأجنبية بحجة الأمن القومي، واستُخدم هذا القانون بشكل فوري تقريبًا ضد شبكة الجزيرة القطرية: ففي 5 مايو 2024م صوّتت الحكومة على إغلاق مكاتب الجزيرة في القدس وسحب اعتماد مراسليها، وقامت بمصادرة معدات البث ومنع بث قناتها وحجب مواقعها الإلكترونية. وفي سابقة خطيرة أخرى، صادر مسؤولون إسرائيليون كاميرات ومعدات بثّ تابعة لوكالة AP الأمريكية، بحجة أن لقطاتها الحيّة من غزة تُستخدم من قبل الجزيرة، متهمين AP بخرق القانون الجديد، وندّدت وكالة AP بشدّة بهذه الإجراءات ووصفتها بأنها "استغلال تعسفي" للقانون بهدف التعتيم الإعلامي، وتحت ضغط الإدانات الدولية – بما فيها احتجاج رسمي من الولاياتالمتحدة – تراجعت الحكومة الإسرائيلية وأمرت بردّ معدات AP واستئناف بث الكاميرا الحيّة، وأبقت على قيودها الأخرى، ومثّلت هذه القرارات إطارًا قانونيًا خطيرًا لتكميم الصوت وتقييد التغطية المستقلة، تمثل في الانتقال من تفجير مقارّ الإعلام في إلى منع الصحفيين الأجانب من دخول القطاع، في محاولة لعزل غزة إعلاميًا عن العالم الخارجي. ماذا تقول المنظمات الدولية عن هذا النمط؟ ووصفت لجنة حماية الصحفيين (CPJ) ما يجري بأنه "هجوم مباشر وغير مسبوق على حرية الصحافة"، ووثقت في بياناتها المتتابعة اعتقالات واعتداءات وتهديدات ممنهجة بحق الصحفيين إلى جانب القتل، وأكدت اللجنة أن معظم الصحفيين الفلسطينيين القتلى سقطوا بغارات إسرائيلية، وأن إسرائيل أخفقت في ضمان أدنى متطلبات سلامة الصحفيين العاملين في غزة. وبعد استهداف طاقم الجزيرة بغزة في أغسطس 2025م، قالت سارة قدرة مديرة مكتب الشرق الأوسط في CPJ: "إسرائيل تقتل الرُسل، لقد أبادت فريقًا إخباريًا كاملًا.. ذلك قتل عمد بكل وضوح"، مضيفةً بأن العالم يجب أن يرى هذه الهجمات كمحاولة متعمدة وممنهجة للتغطية على أفعال إسرائيل في غزة، وشددت اللجنة على أن تعمد استهداف الصحفيين يُعد جريمة حرب بموجب القانون الدولي الإنساني، مطالبةً بوقف هذا "المجزرة" ومحاسبة مرتكبيها. فيما حذّر مكتب الأممالمتحدة لحقوق الإنسان (OHCHR) مرارًا من الاستهداف المتكرر للصحفيين في غزة، حتى داخل مرافق يفترض أنها محمية كالمستشفيات، فبعد قصف خيمة الصحفيين قرب مستشفى الشفاء بغزة (أغسطس 2025م) – والذي أدى لمقتل 5 من طاقم الجزيرة – أدان المكتب الأممي الحادث بوصفه "انتهاكًا صارخًا للقانون الإنساني الدولي"، مؤكدًا على أن تعمد استهداف المدنيين ومنهم الصحفيون محظور تمامًا، داعيًا إلى مساءلة كل من أمر أو نفّذ هذه الهجمات. ويذكّر المكتب بأن الصحفيين يتمتعون بوضع المدنيين المحميين بموجب اتفاقيات جنيف طالما لم يشاركوا في الأعمال القتالية، وبالتالي فإن مهاجمتهم ترقى لجريمة حرب، وكذلك أصدر خبراء أمميون مستقلون بيانًا في فبراير 2024م يندد بقتل وإسكات الصحفيين في غزة، معتبرين أن عملية إسرائيل العسكرية منذ أكتوبر 2023م تحولت إلى "حرب على الشهود" يجب أن تتوقف. وعلى الصعيد الرمزي، منحت منظمة يونسكو جائزتها العالمية لحرية الصحافة لعام 2024م إلى مجمل الصحفيين الفلسطينيين في غزة تكريمًا لشجاعتهم وتخليدًا لذكراهم، وصرّح رئيس نقابة الصحفيين الفلسطينيين ناصر أبو بكر أثناء تسلّمه الجائزة في حفل رسمي بأن ما يتعرض له صحافيو غزة هو "أكثر الهجمات إمعانًا ودموية على حرية الصحافة في التاريخ". وأكد أن الصحفيين واصلوا عملهم "كشهود على المجزر" رغم الثمن الفادح"، وأن هذا التكريم الأممي دليل على أن العالم لم ينسَ تضحياتهم في سبيل الحقيقة، ودعت منظمات كمراسلون بلا حدود (RSF) إلى تحرّك دولي لحماية الصحفيين ومحاسبة جيش الاحتلال على جرائمه. الحقيقة.. هدف عسكري ويكشف هذا السجل الدموي أن الحقيقة أصبحت هدفًا عسكريًا، فعندما تُقصَف خيام يعتصم فيها مراسلو الحرب، وتُهدَم مقارّ إعلام دولية كاملة ، ويُمنَع دخول الصحافة الأجنبية إلى مسرح الأحداث، وتُسنّ قوانين لحظر قنوات بأعينها ، فإن الرسالة المهنية هي أن من يروي المأساة سيواجه مصير من يعيشها. والأرقام الموثّقة تقول شيئًا واحدًا: إسرائيل لم تكتفِ بخنق المدنيين في غزة؛ بل سعت إلى خنق من يشهد على معاناتهم، وهذه الحقيقة المروعة تستلزم ما هو أكثر من بيانات الشجب العابرة، والمطلوب الآن تحقيقات دولية مستقلة وملاحقات قضائية وتعويضات للضحايا، والأهم ضمان وصولٍ آمنٍ ومستدام للصحفيين إلى الميدان في كل الظروف، فالصحافة ليست طرفًا في الحرب... بل هي الضمانة الأخيرة ضدّ محو الحقيقة. وإن كانت قوات الاحتلال الإسرائيلي تخشى شيئًا حقًا، فهو صوت الصحفي وصورة الكاميرا التي تنقل جرائمها للعالم؛ لذلك واجهتهم بالرصاص والصواريخ، في محاولة يائسة لخنق الحقيقة التي ستبقى حيّة.