أنشأ العرب أنفسهم الأسواق بحكم الحاجة، فصارت مع الزمن تمثلهم أصدق تمثيل في عاداتهم في البيع والشراء والخصام والدَّين والزواج والحقوق، ولا يشرف عليها إلا سراة أهلها، وهي مرآة العرب في الجاهلية، وبها نستطيع أن نعرف ما كان عليه العرب تقريباً في معاملاتهم وعلاقاتهم ببعض.. سود الله وجه فلان، أو بيض الله وجه فلان! كلمتان ليستا مجانيتان، وإنما لهما أصلهما وارتباطهما بالشرف القبلي ثم الأسطوري أيضاً. فلم يكن للعرب شأن أقوى من سلطة الشرف، إذ تعتبر من أكبر وسائل الضبط الاجتماعي، فإذا ما اختل شأن من شؤن المروءة، كان هلاكاً على من اقترف هذا الأمر، ولذا نرى ذلك التوازن الأخلاقي بين الأفراد خوفاً من اللوم، فالعربي لا يقض مضجعه سوى أمران (اللوم، والدَّين) بفتح الدال. ومما دعانا لكتابة هذا المقال هو إحياء عادة إشهار البيضاء في أحد الأسواق، تيمناً بالعادات السابقة فيما يسمى بالبيضاء أو السوداء، وهي عادة دأب عليها العرب في الأسواق كوسيلة إعلامية عن محامد فلان أو مساوئ فلان نتيجة فعلة فعلها، وبطبيعة الحال لهذه العادة وقعها على أفعال الأفراد كما أسلفنا. إذ إن أمرين من أمور كرامة العربي في رفع شأنه وحفظ شرفه ونسبه ومصاهرته وشهادته في المحاكم أيضاً هما (السوداء أو البيضاء)، فالسوداء هي صفة تحط من قيمة العربي رجلاً كان أو امرأة، وإذا نصبت السوداء في الأسواق -وهي علم أسود- يؤذن به مؤذن: «أن سوّد الله وجه فلان بن فلان، لأنه فعل كذا وكذا»، ومن هنا يحظى سخط ومقت اجتماعي قد يصل إلى حد المقاطعة الاجتماعية غير المعلنة، وأقلها أن لا تقبل له الشهادة، فإذا حضر ليشهد في قضية ما، طلب القاضي اثنين من (المزكية) يزكيانه ويشهدان له بالكمال ورفعة الشرف، أو عكس ذلك، هذا فإن كان قد نصبت له السوداء، لم يزكّه أحد فيفقد رفعة الشهادة وتبطل شهادته، فلكل قضية شاهدان يتبعهما مزكّيان يزكيان شهادتهما، كما أن لهما أثرهما في المصاهرة والنسب. وهذه العادة لها أصل أسطوري، وهو «أن حويلان بن كوش بن كنعان، كان بهي الوجه والخلقة، إلا أن أباه غضب منه، فدعا عليه بأن يسود وجهه ووجه ذريته من بعده، فنتج عنه ذرية سود البشرة وهم الزنوج وأصحاب البشرة السمراء»، فهم من أبناء حويلان بن كوش بن كنعان كما ذكر البغدادي في كتابه سبائك الذهب. ومن هنا كان أصل رفع الراية السوداء كخروج عن العرف والعادات، وظل الناس إذا غضبوا على أحد قالوا: سود الله وجهه. وهو أسلوب للوم الذي يمقته العربي بطبيعته مقتاً شديداً، فلن يكون هذا بسبب تمييز عنصري للون كما قد يفسره البعض، وإنما هو رمز عن الخروج عن العرف والمألوف نتيجة لتجذر هذا المفهوم الأسطوري! وهذا يقودنا إلى السؤال: لماذا يتم إعلان الأحكام وإشهار العادات في الأسواق؟ ذلك لما كان للأسواق من أهمية كبرى، وهو وقوعها موقعاً إعلامياً كبيراً، فكانت من أكبر مراكز الإعلام في بلاد العرب، وجدير بالذكر أن لا ننسى المنادي كأول وسيلة إعلامية كبيرة تربط العربي بواقعة، وكذلك باقي الأخبار والأنباء، جميعها تُنشر في الأسواق، فكانت مركزاً إعلامياً إلى جانب كونها مراكز ثقافية، كما أنها كانت أماكن للتجمع تعمل على نقل العادات والتقاليد وتلاحق الثقافات ونقلها إلى بلاد كل منهم، كما أنها وسيلة من وسائل الضبط الاجتماعي. فقد كان للعرب وتجارهم خاصة نقلة ثقافية وتاريخية وسياسية، قال الهمداني: «ليس يوصل إلى خبر من أخبار العجم والعرب إلى العرب ومنهم... فعنه أتت أخبار آل أذينة والجرامقة، ومن سكن باليمن، فإنه علم أخبار الأمم جميعاً». كما أنهم يأتون إلى هذه الأسواق لفك الأسرى ودفع الديات، والاستجارة، وطلب الأمن والفداء، وغير ذلك من المطالب. وتنقسم الأسواق إلى ثلاثة أقسام: هذه الأسواق عمال عرب يعينهم الفرس وولاة الرومان، وهؤلاء العمال الذين يتولون السوق هم الذين أيهم أعشار أهلها. ولذا أنشأ العرب أنفسهم الأسواق بحكم الحاجة، فصارت مع الزمن تمثلهم أصدق تمثيل في عاداتهم في البيع والشراء والخصام والدَّين والزواج والحقوق، ولا يشرف عليها إلا سراة أهلها، وهي مرآة العرب في الجاهلية، وبها نستطيع أن نعرف ما كان عليه العرب تقريباً في معاملاتهم وعلاقاتهم ببعض. ولذا فإننا نرى أنه كان للأسواق شأناً عظيماً، ليس في عملية التبادل التجاري فحسب، وإنما كانت عاملاً كبيراً في نقل الحضارات والثقافات واللغات، وكل ما يصوغ الشخصية بكل جوانبها، كما أن للبعد السياسي عاملاً كبيراً للأسواق كدور كبير في السياسة، ومن أهمية هذه الأسواق هو إعلان الأحكام وإشهار الرايات التي لها سطوتها الكبرى كوسيلة من وسائل الضبط الاجتماعي، فما الرايات البيض أو قل البيضاء إلا أعلى درجات الأوسمة والتكريم التي يحرص عليها العربي، وخاصة أنها تعلن في الأسواق التي تجمع من الجنسيات العربية والأعجمية الكثير، وكأنها بمفهوم اليوم (أوسكار) عالمي. وفي ضوء ما نراه في عصر التكنولوجيا ومنصات التواصل من هراء ومن صلف وتفسخ أخلاقي، لا يتم للأصول العربية وعاداتها وتقاليدها بصلة، فمتى كان المنادي يرفع الراية البيضاء أو السوداء، وبمجرد أن يقول بيض الله وجه فلان وآل فلان، أو سود الله وجه فلان أو آل فلان، فإن الملامة أو قل اللوم لا يلحق بالفرد نفسه بل بآله وذويه حتى يصل إلى الدرجة الرابعة من القرابة! ولذا يتوجب على الباحثين الاجتماعيين والدارسين بدراسة هذه الظاهرة الفجائية على الشخصية العربية وهذا التغيير الذي لا يتعدى عمره الزمني الثلاثين عاماً وهو عدم الخوف من اللوم، وهو رقم لا يرقى إلى فعالية هذا التحول سريع الإيقاع وغريب الوقع على المجتمعات العربية المتأزمة من هذه التحولات ومدى خطورتها على النشء الجديد.