في العام 1930، توقّع جون ماينارد كينز أن التقدم التقني سيحرر البشر من الحاجة إلى العمل لساعات طويلة. وتحدّث عن أن العالم سيشهد بطالة تقنية مؤقتة في مرحلة يتفوق فيها الابتكار على قدرة الاقتصاد على إيجاد مهام جديدة للبشر. وبعد قرابة قرن، لم تعد المخاوف تتعلق بإحلال مؤقت، بل أصبح الخوف من تفوق دائم لا نستطيع اللحاق به. تحوّل الجدل حول الذكاء الاصطناعي، والروبوتات، والأتمتة من تفاؤل بالتقدم إلى قلق وجودي. فموجات الابتكار الأخيرة من الأتمتة الذكية في قطاعات مثل المالية والرعاية الصحية، إلى أدوات الذكاء التوليدي مثل تشات (جي بي تي)؛ لا تغير فقط طريقة عملنا، بل تعيد تعريف العمل نفسه. وإذا كانت الثورات الصناعية السابقة قد استبدلت الأعمال اليدوية بالآلات، فإن التحول اليوم يهدد بإحلال الفكر البشري ذاته. في العام 2011، صاغ إريك برينجولفسون وأندرو مكافي هذا القلق في كتابهما السباق ضد الآلة، حيث أشارا إلى أن التقنية تتقدم بوتيرة تفوق قدرة الإنسان على التكيف. واليوم، تبدو أطروحتهما وكأنها نبوءة تتحقق. فقد تخلفت النظم التعليمية، وسياسات سوق العمل، والمؤسسات التنظيمية عن الركب، بينما تواصل التقنية اندفاعها السريع. ما يميز هذه الحقبة هو أن الأتمتة لم تعد تستهدف الوظائف كاملة، بل المهام الدقيقة داخل الوظائف. فالبحث القانوني، وتفسير الصور الإشعاعية، وخدمة العملاء التي كانت جميعها محفوظة لأصحاب المؤهلات العليا، باتت تجزأ وتعاد صياغتها لصالح الخوارزميات. حتى الوظائف التي تبقى لم تسلم من التغيير، فقد تفكك، أو تفقد جوهرها، أو تفرغ من معناها. ماذا تكون النتيجة إذا تحقق الأمر بهذه الصورة؟ بطالة مزمنة زاحفة، تمسّ خصوصا أولئك الذين لم تعد مهاراتهم ملائمة لعصر الآلة. بالنسبة للكثيرين، وخاصة في الوظائف الإدارية والمتوسطة، لم تعد البطالة مؤقتة كما تصوّرها كينز، بل أصبحت بنيوية. لا يكمن الخطر في فقدان الوظائف فقط، بل في تآكل المعنى المرتبط بالعمل نفسه. فلطالما شكل العمل مصدرا للهوية، والانتماء، والكرامة الفردية. ومع تحوله إلى مهام متفرقة تؤدى بالتنسيق مع خوارزميات، أو تخضع لرقابتها، تصبح علاقة الإنسان بالعمل أكثر هشاشة وأقل إنسانية. نحن لا نخسر وظائف فقط، بل نخسر الإحساس بالجدوى والدور الذي نلعبه في المجتمع. إذا تحقق الأمر كما يتوقع كتاب سباق الآلة، فإن التحدي الذي يواجه السياسات العامة اليوم ليس إعادة تدريب العمال فقط، بل إعادة تخيل النظام الاقتصادي والاجتماعي ذاته في عالم لا يعود فيه العمل، بصيغته التقليدية، متاحا للجميع. في هذا السباق ضد الآلة، لم يعد السؤال إن كانت الآلة ستفوز، فهي قد بدأت السباق بالفعل. السؤال الحقيقي هو: هل يستطيع المجتمع اللحاق قبل أن يفوت القطار الكثيرين؟