في المشهد السعودي الجديد، لم تعد الثقافة ترفًا ولا الفنون مجرد مظاهر، بل أصبحت إحدى لغات الدولة، ومع البيعة الثامنة لصاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء، تتضح ملامح مشروع تحوّلي لم يكتف بإعادة رسم خارطة الاقتصاد والسياسة، بل أعاد الاعتبار للهوية، وللجمال، وللذائقة العامة، بوصفها أدوات ناعمة لا تقل أهمية عن أدوات التأثير الأخرى. الأمير محمد بن سلمان، ومنذ اللحظة الأولى، لم يتعامل مع الثقافة على أنها قطاع هامشي أو امتداد احتفالي للمناسبات، بل تعامل معها بوصفها مكونًا مركزيًا في مشروع وطني شامل، ولعل عبارته الشهيرة في أحد لقاءاته مع الإعلام الغربي: "أنا أعشق الفنون"، لم تكن مجرد توصيف لذوق شخصي، بل بوابة لفهم أعمق لطريقة تعامله مع بناء الإنسان السعودي، وتقديم صورة المملكة للعالم، وهذا العشق ترجم نفسه بوضوح في دعمه الدائم لمختلف المناشط الثقافية والفنية، فمن لوحات الفنانين السعوديين التي تزيّن المكاتب الرسمية الحكومية، إلى توجيهه المستمر بدعم المؤسسات الثقافية، ومن حرصه على حفظ الهوية المعمارية في مشاريع كبرى، إلى الإصرار على أن تصعد الأوركسترا السعودية على أكبر المسارح العالمية، كل ذلك ليس فعلًا ثقافيًا بقدر ما هو تموضع جديد للمملكة في سياق القوة الناعمة، بلغة تُفهم عالميًا. ما يحدث اليوم في العلا، وفي الرياض، وفي جدة، وفي الخبر ومدن المملكة المختلفة، ليس فقط مهرجانات أو فعاليات، إنه مشهد جديد تتشكل فيه السعودية كفاعل ثقافي مؤثر، يقدّم نفسه من خلال الفن، ويعيد رواية تاريخه بلغة معاصرة، فعندما تُضاء العاصمة بأعمال "نور الرياض"، وتتحول الشوارع إلى معارض مفتوحة في "رياض آرت"، ويتابع العالم الأوركسترا السعودية في نيويورك، وباريس وطوكيو، وسيدني، ولندن، فإن هذه المشاهد لم تعد استثناءات، بل أصبحت جزءًا من صورة ذهنية جديدة تُبنى يومًا بعد يوم. هذه الصورة لم تأتِ من فراغ، فالأرقام تقف خلفها بقوة مع ارتفاع إنفاق الأسر على الثقافة من 2.9 % إلى 6 %، وخطة واضحة لمساهمة القطاع الثقافي بنسبة 3 % من الناتج المحلي بحلول 2030، كلها مؤشرات على أن الثقافة تحوّلت من خيار إلى سياسة، ومن نشاط إلى اقتصاد، فالمفارقة الأجمل في هذا التحوّل أن ولي العهد لم يختزل الثقافة في المعاصر فقط، بل أعاد فتح ملفات الذاكرة التاريخية، من ترميم 130 أكثر مسجدًا تاريخيًا، إلى إطلاق خريطة للأنماط المعمارية السعودية، إلى إعادة الحياة للأسواق التقليدية، لتصبح هذه المشاريع جزءًا من فلسفة عمرانية – ثقافية تُعيد التوازن بين الحداثة والأصالة. إن الذكرى الثامنة لبيعة ولي العهد هي فرصة لتأمل مخرجات مشروع متكامل، وضع الفن في قلب الرؤية، وجعل من الثقافة جسراً للحوار مع العالم، ووسيلة لبناء الداخل بثقة واعتزاز.