هل سمعت يومًا عن رواية قليلة حياة؟ أو ربما مرّت بك دون أن تدري أن لهذا النوع اسمًا خاصًا؟ قد تظن، للوهلة الأولى، أنها من تلك الروايات الرديئة التي لا تستحق الوقت، لكنك مخطئ. هي ليست سيئة بالضرورة، بل قد تكون مكتوبة ببراعة، بلغة مدهشة، وأسلوب يدعوك للتصفيق. لكن رغم كل هذا، حين تطوي صفحتها الأخيرة، لا تشعر أن قلبك تغيّر. تقرؤها وأنت على قيد التحليل.. لا على قيد الحياة. وهنا يكمن الفرق. الرواية قليلة الحياة لا تخاطب قلبك مباشرة، بل تمرّ عبر وعيك، تعرفك جيدًا، لكنها لا تمسك بيدك. تصل إلى حزنك، دون أن تشاركه، ترسم الحياة، لكنها لا تترك فيها أثر أصابع، لا رائحة، لا نبضاً، لا شهقة تُسرّب صدقها إليك. إنها أقرب إلى معادلة باردة، أكثر منها حكاية حارة. نقع في حبها لأنها ذكية، أنيقة، ترضي الجزء الواعي فينا؛ ذاك الذي يحب التأمل، التحليل، الإعجاب بالصنعة والانبهار بالفكرة. لكنها لا تُشبع الجزء الفطري، العفوي، الذي يريد أن يضحك، يحب، يخطئ، يخسر... ويعيش. قليلة حياة بكل المقاييس، نقرؤها بإعجاب، لكن لا نشتاق إليها، ولا نحبها. لأن الرواية، في جوهرها، ليست درسًا فلسفيًا، ولا علاجًا للنصوص، ولا سردًا أنيقًا للضياع. الرواية تجربة، ليست حكيًا عن الحياة، بل استحضارٌ لها. أتذكّر حين قرأتُ الطنطورة لرضوى عاشور، كم أحببتها ولامست شغاف قلبي! لم تكن فقط قصة فتاة فلسطينية تمشي على رماد وطنها، بل كانت أمًّا تنادي أبناءها، تحتضنهم بالكلمات، وتخاف عليهم من النسيان. الصوت فيها لم يكن محايدًا، لم يكن مراقبًا من بعيد، بل كان حارًّا، مشبعًا بالأمومة، حاضرًا في الألم كما في الأمل. كأن الرواية ليست حبرًا على ورق، بل جسد ينبض بالحقيقة، ذلك هو الفارق الذي لا يُدرَّس ويستحيل تقليده: أن تُكتب الرواية لا لتُبهر، بل لتُحب، أن تتنفس بين السطور، لا أن تتقن التكوينات البلاغية، أن تقترب، لا أن تتعالى. ودعني أسمّي تلك الأخرى بما يليق: رواية لا أخلاقية. لا لأنها خارجة عن القيم، بل لأنها خارجة عن روح الكتابة، لا تُربكك، لا توقظك، لا تحرّضك على شيء. تُربّت على كتفك... ثم تصفعك، لا لأنك تستحق، بل لأنها لا تملك غير ذلك. في زمنٍ امتلأت فيه المكتبات بروايات ذات تصدير جميل وغلاف بارع، بات من النادر أن نجد رواية حيّة. تلك التي لا تشرح الحياة، بل تعيشها معنا، تلك التي لا تجعلك تقول "جميلة"، بل تجعلك تصمت... لأنك شعرت. فمتى كانت آخر مرة قرأت فيها رواية قليلة حياة؟ ومتى كانت آخر مرة... شعرت أنك عشت رواية؟ * كاتبة فلسطينية مرفت أبوالعينين