رواية «ج» عمل سردي لافت للكاتب السعودي عبدالله الزماي، يشعر القارئ وهو يتصفحها بأنه يدخل عالمًا طفوليًا قد يبدو بسيطًا في مظهره، لكنه عميق ومركّب في داخله، حيث تُبنى الذاكرة، وتتشكل الهوية، ويبدأ الإنسان مبكرًا جدًا في حمل تصوراته عن العالم. الرواية الصادرة عن دار رشم 2024، تسير على خطين متوازيين، يتناوب السرد فيهما بين شخصيتين هما «عبدالله» و»محمد»، شقيقان يعيشان معًا في بيت واحد بقرية سعودية في تسعينات القرن الماضي. استخدم الكاتب التناوب ليُظهر كيف يمكن للحدث الواحد أن يُروى برؤيتين مختلفتين، متناقضتين أحيانًا، مما يفتح المجال للتساؤل: أيُّ السردين أقرب للحقيقة؟ وهل الحقيقة فعلًا شيء يمكن تثبيته، أم أنها مجرد ظلال متعددة لرؤية كل شخص؟ ما ميز الرواية أنها لا تستعرض الطفولة بوصفها مجرد ذكريات جميلة أو مؤلمة، بل بوصفها أساسًا لتشكّل الإنسان لاحقًا. الطفولة هنا ليست «ماضياً» فحسب، بل مرآة للمستقبل. من خلال المواقف الصغيرة، والحوادث اليومية، والعلاقات العائلية المتباينة بين البطلين، نلمس كيف تبدأ شخصياتهما بالتشكل، وكيف يختلف تأثرهما بالبيئة المحيطة. واتخذ الكاتب الأسلوب السردي الذي يتميز بالاقتصاد اللغوي والدقة، في فصولها لا نجد إسهابًا ولا استعراضًا لغويًا، بل لغة مشدودة ومضغوطة، تترك فراغًا واعيًا يسمح للقارئ بالتأويل، ويمنحه حرية المشاركة في ملء المساحات الفارغة بين السطور. وهذا الأسلوب يُحسب للكاتب، خاصة وأنه يخدم فكرة الرواية الأساسية: تعدد التأويل واختلاف الرؤية. ورغم أن الرواية تبدو في ظاهرها بسيطة، فإنها تحاول أن تلمّ بكل تفاصيل الحياة اليومية لأبناء الثمانينات والتسعينات في القرى السعودية، من الألعاب الشعبية، إلى البرامج التلفزيونية، إلى تفاصيل المدارس والملابس والعلاقات العائلية. بدا لي أن الكاتب أراد أن يحشد أكبر قدر ممكن من الذكريات، وكأنه لا يريد أن يفوّت شيئًا مما كان يشكّل عالم جيله. هذا الإصرار على التوثيق الشعوري والزمني، وإن كان ممتعًا للقارئ الذي عاش تلك المرحلة، إلا أنه في بعض اللحظات بدا وكأنه يثقل السرد أو يدفعه نحو الحنين المبالغ فيه على حساب حركة الأحداث أو تطوّر الشخصيات. لفتني في الرواية، ذلك التوتر الخفي بين الشخصيتين، الذي لا يظهر دائمًا بشكل مباشر، لكنه ينبض تحت السطح. هناك منافسة مكتومة، اختلاف في النظرة للأشياء، وتفاوت في درجة الحساسية تجاه العالم. وهذا كله يُصاغ دون ضجيج، بل بلغة هادئة لكنها مشحونة. رغم أن هذه الرواية تدور في بيئة قروية محدودة جغرافيًا، فإنها تنفتح على أسئلة كبرى تتجاوز حدود المكان والزمان: مَن نحن؟ وكيف تتشكل ذاكرتنا؟ ولماذا يتذكر كل منا الأحداث بطريقة مختلفة تمامًا عن الآخر، رغم أننا كنا هناك معًا، في اللحظة ذاتها؟ رواية «ج» هي أكثر من مجرد قصة عن أخوين في طفولتهما؛ إنها حفر هادئ في طبقات الذاكرة، وتذكير بأن ما نعيشه قد لا يكون بالضرورة ما يتذكره الآخرون. أو بتعبير آخر: لا وجود لحقيقة واحدة، بل لروايات كثيرة... هذه الرواية قد تكون مناسبة لمَن ما زال يحتفظ في قلبه برائحة الدفاتر القديمة، وضوء المصابيح الخافتة في البيوت الطينية، لمن يسترجع بصمت أصداء الحارة وأحلام الطفولة البسيطة، ولمن يؤمن بأن الذكريات ليست مجرد مشاهد عابرة، بل نبض حي يربط بين الماضي والحاضر والمستقبل.