في أروقة النقاشات التعليمية والاقتصادية، تتردد عبارة باتت تُعامل كمسلمة: "الجامعة يجب أن تخرّج من يخدم سوق العمل". ومع تزايد الضغط من القطاع الخاص والقطاعات الحكومية لسد احتياجات السوق، بدأت تتشكل صورة نمطية وضيقة للجامعة، تختزل دورها في كونها مجرد خط إنتاج للوظائف، لا مؤسسة لصناعة الفكر وإدارة نهضة المجتمع. هذا الفهم القاصر، وإن بدا منطقيًا في ظاهره، إلا أنه يحمل في طياته خطورة كبيرة على المدى البعيد. فعندما يتم التعامل مع التعليم العالي كوسيلة لتغذية السوق فقط، يتم تقليص رسالته الكبرى، ويُهمّش دوره التنويري، وتُصبح المعرفة أداة نفعية بحتة، لا مشروعًا حضاريًا. ليست الجامعة مجرد قاعة يدرس فيها طالب تخصصًا يتناسب مع وظيفة، بل هي مساحة تُبنى فيها شخصية الإنسان، ويُنمّى فيها وعيه الوطني، وتُصقل قدراته الفكرية والاجتماعية. ومن يتتبع نشأة الجامعات الكبرى في العالم يدرك أنها لم تُبنَ لتخدم سوق العمل فقط، بل لتُخرّج قيادات، وتنتج فكرًا، وتصنع تحولات اجتماعية عميقة. وفي السياق المحلي، تشير الدراسات إلى أن الجامعات السعودية تلعب دورًا مهمًا في تعزيز الأمن الفكري وتنمية قيم المواطنة لدى طلابها، رغم أن هذا الدور لا يزال بحاجة إلى مزيد من التعزيز المؤسسي. وهذا يؤكد أن الجامعة، عندما تؤدي دورها الحقيقي، تُصبح حصنًا منيعًا للأمن الوطني، لا مجرد وسيط للتوظيف. لكن المشكلة تتعمق حين تترجم بعض المؤسسات هذا الفهم الضيق إلى قرارات. فيُعاد هيكلة البرامج وفق ما يريده السوق فقط، وتُقلص الميزانيات المخصصة للبحث العلمي، وتُهمّش التخصصات الإنسانية، وكأنها عبء لا فائدة منه. الأسوأ من ذلك أن هذا التوجه يصنع مجتمعًا يُقاس فيه الإنسان بمدى مواءمته للوظيفة، لا بمدى وعيه أو مشاركته في بناء مجتمعه ووطنه. من هنا، يصبح من الضروري أن نعيد النظر في النظرة الوظيفية للجامعة. صحيح أن ارتباط التعليم بسوق العمل ضرورة اقتصادية، لكن الأصح أن يُنظر للجامعة بوصفها مشروعًا وطنيًا وثقافيًا شاملًا. مشروع يُعزز أمن المجتمع، ويؤهل قياداته، ويصنع التوازن بين النمو الاقتصادي والنمو الفكري. نحن لا نحتاج فقط إلى مهندسين وأطباء ومبرمجين، بل إلى معلمين ومؤرخين وفلاسفة وعلماء اجتماع يصيغون الوعي ويوجهون السلوك. فالمجتمع لا يُبنى بالتخصصات الربحية وحدها، بل يُبنى بتكاملها جميعًا. في نهاية المطاف، الجامعة التي تخدم الإنسان بوصفه فردًا واعيًا، منتجًا، منتميًا، هي الجامعة التي تبني وطناً متماسكًا وآمنًا. أما الجامعة التي تُقاس بمدى تماشيها مع قائمة الوظائف، فهي في الحقيقة تُجهّز أرقامًا... لا تبني أجيالًا.