جميع الدول والحكومات على مختلف توجهاتها السياسية والاقتصادية، تدرك أهمية قطاع الإسكان، لأسباب اجتماعية وإنسانية واقتصادية وسياسية، ولا شك أن تأمين السكن المناسب الذي يحقق كرامة الإنسان ويساعد على تكوين أسرة سليمة يلعب دوراً كبيراً في استقرار المجتمع وازدهاره، ولقد عانى الكثير من المواطنين من أزمة امتلاك المسكن المناسب فترة طويلة، حتى تم إطلاق رؤية 2030م التي وضعت أهدافاً لتحقيق حلم تملك المسكن خصوصاً لفئة الشباب الذين يشكلون أكثر من نصف الشعب السعودي، ولم يتوقف الدعم المتواصل الذي قدمته حكومتنا الرشيدة -حفظها الله- لقطاع الإسكان في الأعوام السابقة من خلال برامجها المتعددة، منذ تأسيس صندوق التنمية العقاري عام 1974م، ثم تأسيس وزارة الإسكان عام 2011م، ومع انطلاق رؤية المملكة المباركة 2030م حظي قطاع الإسكان باهتمام ودعم قيادتنا الحكيمة، من خلال إطلاق عدد من المبادرات والبرامج التي ساهمت في رفع نسبة تملك السعوديين لمنازلهم حتى الوصول إلى نسبة 70 % بحلول 2030م، كمبادرة سكني عام 2017م، وبرنامج "وافي"، وبرنامج الإسكان عام 2018م، والتي أحدثت تحولاً كبيراً في قطاع الإسكان ونظمت سوق العقار، ووسعت نطاق الحصول على التمويل، وقدمت خيارات متنوعة تناسب مختلف الاحتياجات، وأيضاً إطلاق برنامج إيجار الذي يحمي المستأجرين والملاك، وكذلك إطلاق العديد من المبادرات والمشاريع التطويرية التي ساهمت في سد حاجة السوق السكني بالمملكة، وتوفير فرص استثمارية عديدة لجذب شركات التطوير العقاري في القطاع الخاص، ليكونوا شركاء في تقديم حلول للباحثين عن مسكن يلبي احتياجاتهم في جميع مناطق المملكة، وبحسب التقرير الأخير عن منجزات الرؤية للعام 2024م بلغت نسبة تملك الأسر السعودية للمساكن 65.4 %، مقارنة ب47 % في 2016، ثم جاء تبرع ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله- بمليار ريال لبرنامج "سكني" عبر مبادرة "جود الإسكان"، الذي سيكون له أثر كبير في دعم استقرار الأسر محدودة الدخل، بتوفير وحدات سكنية مناسبة، وتقليص مدة إنجاز المشروعات إلى عام واحد، وتحقيق العدالة في أسعار العقارات وإيجاراتها، وتوفير فرص اقتصادية للشركات الوطنية، وكان آخرها تعديل نظام رسوم الأراضي البيضاء من أجل تحقيق التوازن في السوق العقاري والعرض والطلب، ورفع كفاءة استخدام وتطوير الأراضي والمباني غير المستغلة. ولكن الطلب على المساكن سوف يزداد بنسب أكبر في السنوات المقبلة؛ لأن غالبية سكان المملكة من الفئات الشابة، ما يعني زيادة عدد الأسر الجديدة، وبالتالي زيادة حجم الطلب على المساكن، وبحسب شركة "نايت فرانك" فإن المملكة تحتاج إلى بناء 115 ألف منزل سنوياً على مدى السنوات الست المقبلة لتلبية الطلب؛ ولهذا علينا المضي قدماً في إيجاد حلول دائمة لمعالجة مشكلة السكن، وهناك تجارب عالمية ناجحة استطاعت أن تحل مشكلات الإسكان بنسب كبيرة، كالتجربة السنغافورية التي تعد من أنجح التجارب العالمية في معالجة أزمة السكن، إذ أنشأت نظاماً لترتيب من له الأولوية في الحصول على السكن حسب الحاجة الفعلية مع مراعاة عدد أفراد الأسرة والدخل، وتقوم هيئة الإسكان السنغافورية ببناء وحدات سكنية عالية الجودة على أراضٍ تملكها الدولة حتى تتمكن من التحكم بأسعار العقارات، ومن ثم بيعها على المواطنين بأقساط مريحة حتى أصبح أكثر من 80 % من السنغافوريين يعيشون في مساكن تملكها الدولة، وتم بيعها للمواطنين بأسعار مدعومة، وكذلك عملت الدولة على تقديم دعم نقدي مباشر للمواطنين لشراء المساكن، بالإضافة إلى تمويل طويل المدى وبفوائد رمزية بحسب وزارة التنمية الوطنية السنغافورية. وأيضاً هناك تجربة مدينة فيينا التي تميزت ببرنامج الإسكان التنموي الذي يوفر مساكن حديثة وذات جودة عالية وبأسعار مناسبة لأصحاب الدخل المحدود والمتوسط، حيث تمتلك الحكومة نحو 25 % من المخزون السكني في المدينة، ولها أحقية التصرف بنحو 25 % من الوحدات السكنية الموجودة في المدينة التي تم بناؤها من قبل مطورين عقاريين بهامش ربح محدد بالتنسيق مع الحكومة، بحسب جمعية معمار للإسكان التنموي؛ حيث تقدم الحكومة الأراضي المناسبة وبأسعار رمزية للمطور العقاري، مع قروض ميسرة وفائدة قليلة وفترة سداد طويلة، بشرط تأمين سكن مناسب يراعي معايير الجودة والاستدامة الاجتماعية والاقتصادية، وبأسعار مناسبة لفئات الدخل المحدود. لنجاح برامج الإسكان في أي دولة لابد من توافر عدة مقومات أهمها وجود أنظمة تشريعية وتمويلية متناسقة، وإيجاد مظلة جامعة للعاملين في مجال الإسكان تجمع الجهات الحكومية ذات العلاقة والقطاع الخاص والقطاع غير الربحي من أجل التنسيق فيما بينها ومعالجة التحديات التي تواجه قطاع الإسكان، وتجدر الإشارة إلى مساهمة القطاع الخاص في تعزيز فرص تملك المواطنين للمساكن عبر توفير سيولة طويلة الأمد لسوق التمويل العقاري، عندما وقعت الشركة السعودية لإعادة التمويل العقاري اتفاقية مع البنك الأهلي السعودي لشراء محفظة تمويل عقاري ب 3.4 مليارات ريال. كما أتمنى إنشاء صندوق إسكان رقمي مدعوم بالذكاء الاصطناعي يقوم بجمع بيانات المواطنين تلقائياً من حيث الدخل وعدد أفراد الأسرة ومكان العمل، ويتنبأ باحتياجات المدن بناءً على النمو السكاني. وأتمنى أن تقوم الحكومة بتمكين القطاع الخاص من خلال التأكد من توفر العرض من الأراضي، وتقديم أراضٍ مجهزة بالبنية التحتية لشركات التطوير العقاري الوطنية بأسعار رمزية مقابل أن يتم تشييد مجمعات سكنية عليها، تُقدم لذوي الدخل المنخفض بأسعار تناسب دخلهم وبهامش ربح قليل، وأؤكد على أهمية دعم المحتوى المحلي في المشروعات العقارية ودعم الصناعة الوطنية في مجال التشييد والبناء من خلال مشاركة العناصر السعودية كالقوى العاملة والسلع المحلية والخدمات اللوجستية والتقنية ونحوها. إن قطاع الإسكان لا يقل أهمية عن باقي القطاعات في أي مجتمع، كقطاع التعليم والصحة والعمل، ولا يجب النظر إلى المسكن باعتباره جدراناً وسقفاً، بل هو صمام الأمان لكل أسرة ومصدر الراحة والاستقرار والطمأنينة للمواطن، وقد سمي مسكناً لأنه يوفر السكينة والهدوء للإنسان، فامتلاك المواطن مسكناً سيقوي انتماءه لوطنه ويحقق قيم المواطنة ويعزز الترابط الاجتماعي؛ لذلك يحظى قطاع الإسكان بكل الدعم والاهتمام من قيادتنا الرشيدة -حفظها الله-، من خلال وضع خطط وإطلاق مبادرات إسكانية لتذليل الصعوبات كافة التي تواجه هذا القطاع الحيوي المهم وتلبي تطلعات المواطنين جميعاً.