قبل سنوات، كان امتلاك منزل في مدينة كبرى كالرياض حلمًا مؤجلًا لكثير من الأسر السعودية. اليوم، تُبنى آلاف الوحدات السكنية، وتُوَقع عقود الدعم الحكومي عبر الهاتف، وتتحرك الدولة بكل مؤسساتها لتجعل "السكن" حقًا مُيسرًا لا امتيازًا صعب المنال. ما الذي تغير؟ في قلب هذا التحول، تقف الشركة الوطنية للإسكان (NHC) بوصفها أكثر من مجرد مطور عقاري حكومي؛ بل باعتبارها أداة استراتيجية للدولة، تُترجم أهداف رؤية السعودية 2030 إلى واقع عمراني، اجتماعي، واقتصادي ملموس. فمنذ تأسيسها أواخر عام 2015 كذراع تنفيذي واستثماري لوزارة الشؤون البلدية والقروية والإسكان، أعادت NHC تعريف مفهوم "الإسكان"، لا كمأوى، بل كمنصة للتنمية. رؤية 2030 لا تنظر إلى الإسكان باعتباره مجرد قطاع خدمي، بل كجزء من إعادة بناء العقد الاجتماعي. من هنا نفهم لماذا يقول سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في أحد تصريحاته المتصلة بدعم الإسكان: "أحد هواجسي هو تمكين المواطن من تملك منزل.. وتقديم ما يليق به من جودة حياة" ولم يكن هذا التصريح مجازًا، بل تم تجسيده عبر تبرع شخصي من سموه بقيمة مليار ريال لدعم تمليك الأسر الأشد حاجة، على أن تُنجز المشاريع خلال 12 شهرًا فقط، وبأيدٍ وطنية. تعمل الشركة الوطنية للإسكان حاليًا على تطوير أكثر من 600 ألف وحدة سكنية بحلول عام 2030، ضمن 16 وجهة حضرية جديدة تشمل الرياض، جدة، مكة، المدينة، الدمام وتبوك. هذه ليست مشاريع إسكان فحسب، بل إعادة تخطيط شامل للمشهد الحضري: 5 ملايين متر مربع من المسطحات الخضراء, 8.5 ملايين متر مربع من الطرق والممرات, ومئات المدارس والمراكز المجتمعية والمساجد. وفي الوقت نفسه، استطاعت الشركة خفض الاعتماد على التمويل الحكومي المباشر، ورفعت مساهمة القطاع الخاص، حيث تم استقطاب أكثر من 65 مطورًا عقاريًا محليًا، باستثمارات تجاوزت 53 مليار دولار. قدمت الشركة الوطنية للإسكان نموذجًا رقميًا مبتكرًا من خلال منصة "سكني" التي تجاوز عدد المسجلين فيها 3.8 مليون أسرة. وساهمت هذه المنصات في توقيع 764 ألف عقد دعم، وخفّضت فترة الانتظار من 15 عامًا إلى "استحقاق فوري". أما منصة "إيجار"، فقد ساهمت في تنظيم سوق الإيجارات، بما يعزز الثقة ويجذب الاستثمار المؤسسي للعقار. صرح معالي وزير الشؤون البلدية والقروية والإسكان ماجد بن عبدالله الحقيل إن: "القيادة الرشيدة، وعلى رأسها سمو سيدي ولي العهد، تتابع يوميًا تقدم قطاع الإسكان، وتحرص على تنمية المعروض، وتحقيق التوازن، ومعالجة تحديات الأسعار." وأكد في أكثر من موضع أن قطاع الإسكان أصبح يمثل أكثر من 14 % من الناتج المحلي الإجمالي، وأن الاستثمار فيه تجاوز 200 مليار ريال، مما يعكس تحوّل هذا القطاع إلى رافعة اقتصادية بامتياز. إن ما تقوم به الشركة الوطنية للإسكان يتجاوز النطاق المحلي. فهو يمثل نموذجًا لجذب الاستثمار الأجنبي المباشر (FDI) من خلال بناء بيئة تنظيمية شفافة، مشاريع قابلة للتمويل، ومبادرات شراكة عامة-خاصة (PPP) تفتح المجال أمام مطورين دوليين. وقد شهدت المملكة توقيع اتفاقيات مع شركات عالمية مثل CSCEC الصينية لبناء 20 ألف وحدة، في مؤشر واضح على تحوّل المشهد السكني إلى أصل استثماري إقليمي لا مجرد خدمة اجتماعية. ما يجري في قطاع الإسكان السعودي ليس مجرد توسعة عمرانية. إنه إعادة هندسة العلاقة بين الدولة والمواطن، بين السوق والسياسة، بين المدينة والمعنى. فحين تكون القيادة السياسية هي المحرك الأول للسكن، وحين تُسخَّر التقنيات، والاستثمارات، والحوكمة لتحقيق هذا الهدف، فإن السكن يصبح "سياسة وطنية" بالمعنى الأوسع للكلمة. الإسكان إذًا، ليس مجرد مأوى.. بل مشروع تنموي، اقتصادي، وإنساني في آنٍ معًا.