عندما صعد دونالد ترمب على منبر الخطابة في غرة مايو 2025، إيذانًا ببدء الاحتفال باليوم الوطني للصلاة، لم يكُن حضوره مجرد تأدية واجب رئاسي في محفل ديني تقليدي؛ بل ظهر كمن يخوض غمار جولة أخرى في معركته الخاصة لإرساء معالم الهوية الأميركية التي طالما نادى بها. كان في خطابه يوجه رسالة تجسيد واضح لسعيه نحو إعادة صياغة العلاقة المتشابكة بين الإيمان والدولة، والكنيسة والسياسة، مستخدمًا لغة شعبوية محافظة تُخاطب وجدان القاعدة الإنجيلية التي شكلت رافعة أساسية لانتصاره الحاسم عام 2024. ورغم أن جذور يوم الصلاة الوطني تمتد إلى بواكير تأسيس الولاياتالمتحدة، إلا أن تكريسه الرسمي لم يتم إلا عام 1952، كدرع أيديولوجي في مواجهة المد الشيوعي آنذاك. وعلى مر العقود، ظل هذا اليوم منصة سياسية أميركية للتعبير الرمزي عن تلك العلاقة الملتبسة بين الدين والدولة، ومرآة لتباين رؤى الحزبين لمفهوم القيم العامة. ففي حين يجد فيه الجمهوريون فرصة لتأكيد "الهوية المسيحية" لأميركا، يراه الديمقراطيون احتفاءً بالتعددية الدينية للشعب الأميركي تحت مظلة المواطنة الجامعة. لكن ترمب يتجاوز كل ذلك في حملاته وقراراته وهو يسعى للدفع بالدين (المسيحية) من الرمزية إلى الفعل، بل ربما من القناعات الشخصية إلى السياسة العامة. لم تكن عبارته القاطعة في خطبة يوم الصلاة: "لكي تكون أميركا أمة عظيمة، يجب أن نظل دومًا أمة واحدة تحت الله"، مجرد استعارات عاطفية، بل دعوة واضحة لاستدعاء الإيمان إلى قلب الفضاء العام، وكمحرك للهوية وموجه للسياسات. ويتردد صدى هذا التوجه في مبادراته مثل "مكتب الإيمان" الذي أنشأه في البيت الأبيض، ودعمه لعرض "الوصايا العشر" في المدارس، وأوامره التنفيذية التي يقدمها بدعوى حماية المسيحيين مما يصفه ب"التحيز الممنهج ضدهم". في المقابل، يرى منتقدو ترمب أن خطابه الديني مجرد تكتيك سياسي متقن، لا انعكاسًا لعقيدة صادقة. فالرجل الذي عرف بمسيرة حياتية لا تتسق بالضرورة مع أنماط التدين المحافظ، يبدو في كل ظهور علني بارعًا في تطويع المفردات الدينية المسيحية لاستمالة الإنجيليين البيض. ويشير هؤلاء النقاد إلى أن قراراته ذات الصبغة الدينية غالبًا ما يستخدمها في أزماته "أدوات تعبئة" شعبية مدروسة. ولكن أنصار ترمب يرسمون صورة مغايرة تمامًا. ففي منظورهم، يمثل ترمب شجاعة القائد الذي تجرأ على تحدي العلمانية والنخب الليبرالية "اليسارية" التي سعت -حسب رأيهم- لتهميش الدين وإقصائه من حياتهم. ويجدون في تصريحاته ذات النبرة الإيمانية، كتلك التي أعقبت محاولة اغتياله في يوليو 2024 حين أشار إلى أن العناية الإلهية أبقته حيًا لإنقاذ البلاد، دليلًا على صدق توجهه. كما يستحضرون عباراته القاطعة مثل: "أنا مسيحي فخور جدًا" وتعهده بأنه "لن يمس أحد صليب المسيح تحت إدارة ترمب" بوصفها مبادئ أعمق من مجرد شعارات. ومما لاشك فيه أن ترمب يتقن توظيف مفردات الدين والإيمان، ويعرف كيف يُخاطب جمهوره من بوابة العاطفة الدينية. ترمب ليس مبشرًا، بل رجل أعمال يعرف شرائح "السوق" التي يخاطبها، ويمتلك مهارة المزج بين البراغماتية السياسية، والمغامرة الخطابية المحسوبة باسم الدين. وبغض النظر عن عمق قناعاته الدينية حيث يتداخل الشخصي والسياسي في سلوكه وقراراته بشكل كبير، لكن الأمر المؤكد هو أن ترمب يدرك بحسه السياسي أن الدين في بلاده ليس مجرد شأن خاص، بل هو لغة قوة ومصدر شرعية ونفوذ. * قال ومضى: كلما أفلس سياسي واستنفد الحيلة.. اتخذ من الدين للدنيا وسيلة.