الرؤية التي انطلقت عام 2016 ليست مجرد مخطط اقتصادي واجتماعي، بل تجربة نفسية متكاملة غيّرت بوصلة التفكير الجماعي للفرد السعودي والمقيم، نحو تبني "عقلية الوفرة" (Abundance Mindset). فنتائج رؤية السعودية 2030 المتلاحقة، التي تجلّت في أرقام وإنجازات ملموسة، أسهمت في ترسيخ اعتقاد راسخ بأن المستقبل عامر بالفرص والخير، وليس دائرة ضيّقة من النواقص والتحديات. أول مقوّم في بناء هذه العقلية هو الأمان والاستقرار المادي الناجم عن برامج الإسكان. فقد ارتفعت نسبة تملّك الأسر السعودية لوحداتها السكنية من 47 % قبل الرؤية إلى 65.4 % في 2024، بينما سكّنت أكثر من 850 ألف أسرة منازلها منذ بداية البرنامج وحتى نهاية الربع الثالث من عام 2024، هذا التحوّل ليس رقمًا بقدر ما هو تعبير عن شعور عميق بالأمان وامتلاك الموارد الأساسية، ما يعزز الشعور الداخلي بأن الحياة توفر مساحة تكفي الجميع، فتحلّ مكان الهواجس حول الاحتياج والخوف من المستقبل. ثانيًا: تنوع فرص العمل وتمكين الأفراد اقتصاديًا أسهم بشكل كبير في ترسيخ العقلية الوفرة. فقد بلغت العقود الموثقة رقميًا عبر منصات التوظيف أكثر من 9 ملايين عقد، بحوّل الإجراءات إلى سلسلة مبسطة شفافة وسريعة، مع انخفاض النزاعات العمالية بنسبة 30 % منذ بدء التوثيق الرقمي. وفي ظلّ تركيز الرؤية على تمكين المرأة، نمت نسبة مشاركتها في سوق العمل السعودية من 22.8 % قبل 2016 إلى 33.5 % في 2024. وهذه الزيادة في الفرص الاقتصادية تخلق شعورًا بالوفرة في القدرات والإمكانات الشخصية، إذ يدرك الفرد أن قدرته على التمكّن المادي مفتوحة، وأن الإنجاز الوظيفي ليس مقصورًا على مجموعة محدودة. ثالثًا: التحوّل الرقمي في الخدمات الصحية عزّز الثقة والتفاؤل. فقد أُطلقت منصة "موعد" والخدمات الافتراضية التي مكّنت المرضى من حجز مواعيدهم واستشاراتهم عن بُعد، وهو ما يخفض من مخاطر الازدحام ويوفر الوقت والجهد. إلى جانب ذلك، ارتفعت نسبة الممارسين للنشاط البدني اليومي بين الأطفال والمراهقين (5–17 عامًا) من 6 % إلى 18.7 % بين عامي 2016 و2024، مما يعكس نجاح حملات التوعية وتحفيز العادات الصحية. هذه التطورات تنقل الانطباع بأن الرعاية الصحية والرفاهية متوافرة، فتنمو الثقة بأن المجتمع يستطيع أن يعيش حياة كاملة وصحية دون هلع من نقص الخدمات أو ضعف البنية التحتية. رابعًا: الانفتاح الثقافي والسياحي يلعب دورًا نفسيًا محوريًا في توسيع آفاق الوفرة. فالمملكة استقبلت 11.3 مليون معتمر في عام 2024، متجاوزة مستهدف الرؤية، بينما ارتفع عدد المواقع المدرجة في قائمة التراث العالمي إلى 8 مواقع قبل الموعد المقرر عام 2030. كما احتضنت مشروعات كبرى مثل البحر الأحمر والقدية والدرعية مهرجانات عالمية ك"شتاء طنطورة". كل هذا يعزز الاعتقاد بأن المملكة قادرة على استقطاب العالم إليها، ما يغرس في وعي الفرد شعورًا بأن أرضه غنية بكنوز ثقافية وطبيعية، وأن لديه موارد هائلة لاستكشافها والاستمتاع بها. خامسًا: الاستدامة البيئية تُشكل بعدًا نفسيًا رابعًا للوفرة. إذ أسهمت مبادرة "السعودية الخضراء" في حماية 18.1 % من المناطق البرية والبحرية حتى 2024، مع إطلاق أكثر من 7 آلاف كائن فطري في المحميات الطبيعية، وإرادة حقيقية لتعافي الأراضي المتدهورة وزراعة 10 مليارات شجرة بحلول 2030. هذه الخطوات ترسّخ فكرة الوفرة في المستوى الروحي والنفسي، بأن البيئة نفسها تزخر بالحياة والجمال، وأن الموارد الطبيعية ليست مقدورة بل متجددة وقابلة للحماية والازدهار. سادسًا: تمكين المجتمع المدني والمسؤولية الاجتماعية أتاح مساحة للتعاضد والشعور بالوفرة في العطاء. فقد قفزت نسبة الشركات الكبرى التي تقدم برامج المسؤولية الاجتماعية إلى 71.6 % في 2024 مقابل 30 % قبل الرؤية. وروّج ذلك لثقافة العطاء الجماعي والمبادرات التطوعية، ما يمنح الفرد شعورًا بأن المجتمع متكامل وموارد العون متاحة باستمرار لمن يحتاجها. في الاستشراف النفسي للمستقبل، يرى المواطن والمقيم اليوم أن الرؤية تمضي نحو مرحلة ثالثة (2026–2030) بتجديد العزم على مضاعفة الإنجازات وتسريع وتيرة التنفيذ، خاصة في مجالات الاقتصاد الرقمي، الذكاء الاصطناعي، والصناعات المتقدمة. وهذا يعزز لدى الفرد ثقة عميقة بأن الفرص المستقبلية لن تقتصر على الواقع الحالي، بل ستتوسع إلى آفاق غير مسبوقة، مما يعزز عقلية الوفرة بأن القادم أفضل وبموارد وإمكانات أكثر اتساعًا. ختامًا؛ إن "عقلية الوفرة" التي اتسع نطاقها بفعل نتائج رؤية 2030 لا تعني تجاهل التحديات، بل تغيير النظرة تجاهها: من عائق يحول دون التقدم إلى فرصة للنمو والابتكار. فالشعور بالأمان المادي، وتنوع الفرص الاقتصادية، وسهولة الخدمات، وتواصل المملكة مع العالم، واحترامها للبيئة والموروث الثقافي، كلها عناصر متكاملة تعيد تشكيل اللاوعي الجمعي. وهكذا، يتحول المواطن السعودي والمقيم إلى "صانع وفرة" في ذهنه وعمله، مستلهمًا رؤية وطنه التي أفرزت وفرة الفرص والآمال لمستقبل أكثر إشراقًا واستدامة.