سبق الشيخ محمد بن ناصر العبودي -رحمه الله- بتسجيل ريادته في تدوين الكنايات الشعبية في كتاب (المأثورات الشعبية)، حيث دوّن شيئاً منها وشرحها تحت عنوان: (كلمات عامّية لها معنى بعيد)، وفي مؤلفات لاحقة، مثل: (كلمات قضت)، يجد الناظر كماً غزيراً من الكنايات التي ترد في أشعار وأخبار وكلام أهل السعودية، ومع أنّه لم يُعرّف بالكناية ولم يتحدّث عنها نظرياً كما فعل الشيخ أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري؛ وهذا طبيعي لأنها لم تكن موضوعه الأساسي، إلا أنه ينص في مواضع كثيرة على وجود الكنايات بعبارات صريحة مثل: «ومن كنايات الأعراب»، «ومن كناياتهم عن...» ، «ومن الكنايات عن...» ، «ومن الكنايات السائرة عندهم»، «من الكناية قولهم...» ، «كناية عن...» ، «على الكناية عن»، «يُكنى عن...» ، «كَنى عن ذِكر ...». وكانت الكنايات عن الصفات هي الأكثر حضوراً في تدوينه، لاسيما كنايات الأخلاق والحالات المذمومة والمعايب التي ما زال قليل منها مستخدماً وربما يسهل علينا فهمه كقولهم: «فلان ما ياقع الذباب على خشمه» كناية عن سريع الغضب، و»فلان مقطَّع أربع» التي ذكر العبودي أن المقصود بها هو «أن يديه ورجليه قد قطعت لكثرة الجنايات والجرائم التي عملها». إلى جانب كنايات كثيرة تتنوع في أغراضها، وتتنوع بحسب وضوحها بين (القريبة) التي يسهل فهمها، وبين (البعيدة) التي ربما لم تكن بعيدة على فهم أجدادنا الذين كانت ألفاظها مأخوذةً من بيئتهم، ومن تلك الكنايات على سبيل المثال قولهم: «فلان قراد رمضا» كناية عن الشخص المتحير «يبقى في موضع سوء لا يقوى على مفارقته». «فلان نعامة ربدا» أي لا يمتلك الشجاعة مع كبر حجم جسمه. «فلان نفسه نفس ذباب» كناية عن تتبعه لفضلات الطعام. «سلب حيّة» كناية عن الشخص الجبان الذي يخيف مظهره ولكنه لا يستطيع الإضرار بأحد. «سيف بدوي» لمن مخبره أفضل من مظهره. وكذلك أورد العبودي كنايات يكون المكني عنه موصوفاً مثل قولهم: «تجارة معاضد» كناية عن كل ما هو سريع الفناء، وذكر أن المعاضد نوع من الحلي تكون سريعة الكسر، واستعملوا كناية «هُم عَظم رقُبة» كناية عن اجتماع القبائل على أمر معين. وقالوا في وصف الكلام: «قَصْر وجَمع» أي أنه موجز، كما قالوا كناية عن الأمر الذي لا يمكن الانفكاك منه: «جيزة نصارى»، وقالوا: «خطوطٍ برمل» في الكناية عن الأمر الذي يزول سريعاً. انتماء كثير من الكنايات الشعبية لبيئة تختلف اختلافاً كبيراً عن بيئتنا اليوم يجعل فهم المعنى المستتر خلفها أمراً متعسراً على أبناء هذا الزمن، ففي عدد غير قليل منها ترد ألفاظ عامية، انقرضت أو تكاد تنقرض، اجتهد العبودي كل الاجتهاد في شرحها؛ ولا شك أن شرح تلك الألفاظ وتوضيح الأصل الذي استعيرت منه يُسهّل من فهم مغزاها وإدراك ما فيها من بلاغة. ومن الكنايات التي يمكن القول إنها بعيدة أو خفيّة قصدوا باستعمالها ستر المعنى قولهم: «فلان ياكل الطين» للشخص الذي يفعل الأمور السيئة بخفية وحذر، فأكل الطين، كما وضح العبودي «مجاز عن اقتراف الإثم الذي هو الاقتراب من الفاجرات». ومن كناياتهم قولهم: «فلان كِرنُفّه» وهي كناية للذم تستعمل للإشارة إلى الرديء الذي يأتي منه شيء رديء، وأوضح المؤلف أن «الكرانيف» من أجزاء النخل يؤخذ منها الليف، يضربون بها المثل: «الليف من الكرانيف». ويكنون عن الذي يُضمر العداوة بقولهم: «فلان شوكة طين». وعندما يقولون: «فلان غصنٍ جرَّار» فإنهم يعنون أن له أتباعاً أو أقارب كثر يلازمونه أو يذهبون معه أينما ذهب. وفي الذم قالوا عن الشخص الذي يتوقى به غيره الذم ويجعله ينوب عنه في مباشرة الأفعال السيئة: «فلان ممحاشة زِفر»، ووضّح العبودي أصل معنى كلمة (ممحاشة) وذكر أنها «المنديل أو القطعة من الخيش التي يمسح الناس بها أيديهم بعد أكل الطعام الدسم». وفي مقابل الكنايات عن الصفات والأخلاق الذميمة استخدموا في كلامهم كنايات بديعة تعبّر عن الصفات والأخلاق الحميدة، كقولهم في الكناية عن الرجل الذي لا يرون فيه إلا المحاسن: «فلان طاسة مربوبة». و»فلان سارية من سواري المسجد» كناية عن كثرة صلاته في المسجد، وقالوا: «فلان صميل قيظ» كناية عن الشخص الذي يمكن الاعتماد عليه والركون إلى حمايته، وقالوا في الكناية عن الكريم «طير الهداد». و»فلان غارٍ أظلَم» للكتوم الذي لا يظهر أسراره للناس. أما من يألفونه ولا يتكلّفون شيئاً عند زيارته فكنّوا عنه قائلين: «فلان من حمام الدار». ويُلاحظ في تراثنا الشعبي كثرة الكنايات التي يكون غرضها المبالغة في التصوير أو المبالغة في وصف حالة محدّدة أو سلوك معين، ومن بين الكنايات التي دوّنها العبودي قولهم: «ياعي سنة نوح» كناية عن كبر سن الشخص، أي أنه أدرك حادثة غرق سفينة نوح. ويقولون في المبالغة في وصف قذارة ثوب الرجل: «لو يعضّه الكلب انغلث» أي سيصاب بداء الكَلَب، كما يبالغون في وصف الكذّاب فيقولون: «فلان كذبه يقلِّع الشجر». وفي حديثهم عن الدار الضيقة يصفونها بأنها: «حنك حمار»، ويعلّل العبودي سبب اختيارهم لحنك الحمار في هذه الكناية بأن حنك الحمار يعد صغيراً بالنسبة إلى جسمه وبقية أجزاء رأسه. أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري حمام الدار نعامة ربدا