الكاتب والمفكر والسيميائي سعيد بنكراد من الأسماء الثقافية المهمة التي تعمل على مشروعها بهدوء وتعمق، لا يحرص على الظهور المجاني بقدر حضوره الفعلي المؤثر، وهو من الأسماء المهمة التي قدمت للسيمياء خدمات جليلة للمثقف العربي. على هامش أصيلة وعبقها الثقافي الخلاق كان لنا معه هذا اللقاء: * تفوقت المدارس النقدية المغربية عربيا سواء على مصر أو لبنان والعراق وغيرها. إلامَ تعزو ذلك؟ * شكرا أولا على استضافتكم لي على صفحات "جريدة الرياض"، أما التفوق فلا أعرف هل هناك حقا تفوق أم لا. ما يمكن أن أتحدث عنه هو نوع من التميز ضمن خارطة نقدية عربية تتنوع مراكزها، ولكنها تظل مع ذلك مرتبطة بعنصر مركزي فيها هو التراكمات الخاصة بما يمكن أن يتحقق في اللغة العربية. هناك حقا خصوصية قد يكون من أسبابها كون النظريات السردية، وهي التي بنت مجد البنيوية ومجد السميائيات بعدها، عرفت النور أساسا في فرنسا والعالم الفرنكفوني عامة. والمغاربة، والجزائريون والتونسيون أيضا، مرتبطون أشد الارتباط بالإرث اللغوي الفرنسي. وهناك آلاف الطلبة من هذه الأقطار تابعوا دراستهم العليا في فرنسا بالأساس ولهم يعود الفضل في نقل جزء كبير من الإرث الفرنسي إلى اللغة العربية (يكفي أن أشير إلى أن كل الكتب التي ترجمتها لأومبيرتو إيكو إلى العربية كانت من الفرنسية لا من الإيطالية). ومن خلال اللغة الفرنسية اطلع الكثير من الباحثين على أغلب ما كتب باللغة الألمانية والإنجليزية سواء في الفلسفة أو الأدب أو في كل فروع العلوم الإنسانية. وقد كانت بدايات المد النقدي الجديد في المغرب والجزائر وتونس من الدراسات السردية في المقام الأول. وهذا لا يشكل في حد ذاته تميزا، بل هو في واقع الأمر رافد جديد للثقافة العربية كما يمكن أن ينتجها اللسان العربي. وسنعود أسفله إلى هذه النقطة. لقد تعلمنا الكثير من فضاء الثقافة العربية في المشرق، ولكننا نحاول اليوم مد هذا المشرق ذاته ما نجحنا، قليلا أو كثيرا، في إنجازه استنادا إلى خلفية معرفية جديدة. *- يُغرق المفكرون والنقاد المغاربة في النهل من المدرسة الفرنسية. هل هذا عيب أم ميزة؟ -لا هو عيب ولا هو ميزة، بل هو حاجة فرضها التاريخ واقتضتها المثاقفة والاحتكاك مع لغة وحضارة عمرت في المغرب ما يقارب نصف قرن ومازالت تُعد جزءا من الثقافة التي تتداولها شرائح كثيرة في المغرب. والأمر في واقع الأمر لا يتعلق بمدرسة فرنسية بل هو لغة من خلالها يطل الكثير من المغاربة على ما كتب بالإنجليزية والألمانية في المقام الأول، كما أشرنا إلى ذلك أعلاه. فلا وجود لمدرسة فرنسية منسجمة تضم داخلها مجموع ما يُنجز في العلوم الإنسانية. فهناك الكثير من التيارات في هذه الثقافة التي لا يجمع بينها أي رابط أحيانا وقد يصل الاختلاف إلى حد التناقض المطلق، يحدث ذلك في الفلسفة وعلوم الاجتماع وفي النقد الادبي (عُرف عن كريماص وهو رائد مدرسة باريس في السرديات نفوره الشديد من التأويل، ولم ينظر إلى أعمال جاك ديريدا أبدا بعين الرضا). ومع ذلك يجب أن نسجل أن مهد البنيوية التكوينية هو فرنسا أيضا، وهي المدرسة التي حاولت إلباس النقد الاجتماعي لبوس نقد شكلاني كانت مصادره في الركن القصي من أوروبا، روسيا، ولكن فرنسا هي أيضا مهد سرديات جيرار جونيت، وسميائيات كريماص ومنطق السرد عند بريموند، ومقترحات تودوروف، والنقد التشريحي عند بارث، وهي مقاربات موغلة في شكلانيتها ولا تقيم وزنا لما يمكن أن يتسرب إلى النص من خارجه، فالنص مكتف بذاته. لذلك لا وجود لمدرسة فرنسية ينتمي إليها كل المغاربيين، هناك في واقع الأمر احتكاك مع الإرث الغربي في جميع المجالات استنادا إلى اللغة الفرنسية فمن خلالها اطلع فلاسفة المغرب على أعمال هوسيرل وهايدغر وغادامير وغيرهم. * متى يكون للعرب لغة نقدية وخطاب فلسفي مستقل؟ لماذا جهودنا النقدية والفكرية وحتى الترجمية مجتلبة من الغرب؟ * للعرب لغتهم النقدية والدليل على ذلك أنهم يكتبون بالعربية. وما كتبته أنا وما يكتبه غيري يتم بالعربية وهذا كاف للحديث عن تجربة نقدية عربية، بمعنى أنها تُكتب بالعربية لا نسبة إلى العرق بل استنادا إلى انتماء إلى فضاء ثقافي أداة تجليه هو العربية، كما تبناها الكرد والأمازيغ وكل الأقوام التي تتحرك ضمن هذا الفضاء. فالمقوم لا يعود إلى خصوصية فكر ينتجه قوم اسمهم العرب، بل هو فكر تبلور ضمن ممكنات اللغة العربية. وهذا معناه أنه يجب أن نعيش زمنيتنا الخاصة استنادا إلى الزمنية الإنسانية، فلا وجود لشيء اسمه اختراع ثقافي عربي لا عجمة فيه، هناك تراث متعدد الروافد والتوجهات مكتوب بالعربية. *- أبرز نقادنا العرب برأيك من هم؟ وما هو المشروع النقدي الذي لفت انتباهك؟ -سؤال صعب، وقد تكون الإجابة عنه مثار سجال. لذلك سأكتفي بالقول إن هناك الكثير من النقاد ولكن المشاريع النقدية قليلة جدا. والكثير من الأسماء التي تجوب الأقطار وملأت الدنيا وشغلت الناس لا مردود حقيقي لها في ما أنتج في الثقافة العربية. ففي زمن الوسائط الحديثة يمكن لأي كان أن يصبح كبيرا في كل شيء إذا عرف كيف يسوق نفسه أو إذا كان لا يقلق ولا يزعج أحدا. *- عبدالفتاح كليطو باحث ومفكر استطاع الولوج لفكر وعقول العرب ولعل تتويجه بجائزة الملك فيصل تأكيد على عمق ومتانة مشروعه النقدي. كيف ترى تجربة كليطو؟ وبماذا تميز عنكم؟ -عبدالفتاح كيليطو اسم ثقافي له موقع كبير في الثقافة المغربية والعربية. وعُرف باجتهاداته في دراسة التراث والبحث في ذاكرة الحكايات القديمة، بل كان من الأوائل في الفضاء الثقافي العربي الذي انتبه إلى ممكنات الرمز وبنائه في قصص ألف ليلة وليلة وفي المقامات كما اهتم بطريقة الجاحظ في الكتابة، وقد فعل ذلك استنادا إلى معرفة معاصرة. ولعل ما يميز كيليطو حقا هو ازدواجيته اللغوية، فهو متمكن من الفرنسية ولكنّه عارف بأسرار اللغة العربية أيضا. وعلى عكس الكثير من الفرنكوفونيين، لم يأت إلى العربية من خارجها، بل تربى في أحضانها منذ صغره. لذلك كانت اللغة العربية عنده هي الأصل، أما الفرنسية فرافد، إنها رافد حقيقي فعلا وهي نافذة استطاع هو وغيره الإطلالة من خلالها على تراث الفرنسية، ولكنها لم تستلبه ثقافتها. لم يكن الذهاب إلى الفرنسية عنده من أجل الإقامة فيها، بل ذهب إليها لكي يرى العالم بشكل أوسع وأرحب من خلال العربية. إنه يتحدث كل اللغات ولكن بالعربية كما يقول. * هناك قطيعة بين النقاد وهذا ملاحظ من عدم احتفائهم بمشاريع زملائهم النقاد! هل تتفق معي؟ ولم؟ -لا يصل الأمر إلى القطيعة، ولكن ملاحظتك فيها جزء من الحقيقة. فظاهرة النميمة والكيد والحط من الآخرين منتشرة كثيرا، وهي حالة مرضية من أهم أسبابها انعدام المشاريع الثقافية. فما هو سائد في الكثير من النماذج هو ممارسات تقنية تتعامل مع النص باعتباره حدثا مفردا يقرأ في ذاته من أجل التسلية أو من أجل ممارسة هوية أو من أجل الصفة التي تمنحها لصاحبها. والحال أن الممارسة الفكرية هي تعبير عن هم، عن قلق له علاقة بالوجود والموت والحياة والديموقراطية وهموم الناس والعيش الكريم. لذلك تختلف الخارطة الفكرية في الفضاء الثقافي العربي عن نظيرتها في الغرب. فقد تكون التخصصات هناك مستقلة في مفاهيمها وطرق صياغتها للقضايا النظرية، ولكنها كانت تنطلق دائما من الغاية ذاتها وهي معرفة معنى الحياة: موقع الإنسان في هذا الوجود وطريقته في إنتاج المعاني وطرقه في استهلاكها، والطرق المؤدية إلى تحرره أو تلك التي تمكن من توجيهه والتحكم في سلوكه، الاجتماعي والسياسي. قد تكون النفس هي الممر الرئيس من أجل الوصول إلى كل ذلك، وقد يكون الجماعي فينا هو المحدد لكل شيء في حياتنا، وقد تكون اللغة هي الكينونة الجامعة لكل شيء، فهي ليست مجرد مرآة، إنها الطاحونة التي تُصاغ داخلها كينونة كل شيء. إن الكائن يكشف عن بعض من أسراره بطرق متنوعة. فعندما ظهرت البنيوية في بداية الستينيات تلقفتها كل العلوم تقريبا، وأصبحت هي الإبدال المعرفي الجديد الذي نظر من خلاله الباحثون إلى الطريقة التي ينتج من خلالها المجتمع قيمه، فكانت مفاهيمها وتصنيفاتها ومستويات التحليل التي اقترحتها هي المدخل نحو تسمية الظواهر ووصفها وتحديد مضمونها. وقد قيل حينها أيضا إن البنيوية إيديولوجيا رأسمالية غايتها إلغاء التاريخ والإنسان. وقد كانت تعبر بذلك عن ميلاد إنسان جديد هو من إفرازات التكنولوجيا ووسائل الإنتاج الرأسمالية، فهو كائن بلا ذاكرة. وجاءت السميولوجيا بعدها، فسارعت الكثير من العلوم الإنسانية إلى تبني نتائجها النظرية والتطبيقية، فكان النموذج اللساني، كما استعاره هذا العلم الجديد، هو النافذة الكاشفة للآليات الداخلية للظواهر والوقائع الإنسانية. حدث ذلك أولا في الأنتروبولوجيا وعلم النفس، ليشمل بعد ذلك الحقل البصري مرورا بالدراسات الأدبية. لقد أصبحت السميائيات هي السبيل المفضل نحو استكشاف طبيعة الأسئلة التي يفرزها المجتمع. فديناميته وعافيته تتحددان من خلال هذه الحركة الفكرية، فالمجتمع الذي يختص فيه كل قطاع بسؤاله الخاص في استقلال كلي عن أسئلة القطاعات الأخرى مجتمع ميت لا يمكن أن يعرف التطور. عكس ذلك ما يحدث الآن عندنا، فالحقل النقدي موزع على كل التيارات دون أن يكون هناك امتداد له في الحقول المعرفية الأخرى. الأمر مختلف عندنا، فالبنيوي لا يعرف ما يقوله صاحب النظرة الاجتماعية ولا يكترث السميائي لما يقوله من يتبنى التاريخ أداة للفصل في قضايا المعنى، ولا امتداد لهؤلاء جميعا في حقل الفلسفة والتاريخ وعلم الاجتماع. إنهم يشكلون جزرا منفصلة عن بعضها البعض. وهذا دليل على أن النقد عندنا ليس جزءا من حركة فكرية هي التعبير عن حالة حضارية، بل هو مجرد لعبة يمارسها بعض الهواة. * لك جهد ترجمي لافت بداية من كتاب الجنون لفوكو او مؤخرا كتاب "أنا أو سيلفي" هل اخذتك الترجمة عن السيمياء؟ -أولا أنا لست مترجما ولا أحب أن أوصف بذلك، وقد أتيت إلى الترجمة صدفة، وما أترجمه له علاقة عضوية بالسميائيات، وهو تخصصي الأول. يكفي أن أشير إلى أن ترجماتي لإيكو وكريماص وأخيرا للكتب الخاصة بالوسائط التواصلية الحديثة، كان من صلب اهتماماتي في ميدان السميائيات. لذلك لم أترجم إلا ما له علاقة بهذا التخصص، وقد كان ذلك نافذة أطل منها وأساعد الآخرين أن يفعلوا ذلك على بعض ما أنتج في هذا الميدان. فتاريخ الجنون نفسه لم أترجمه إلا لأن الفصل الأول كان مخصصا لسفينة الحمقى، وقد استقى فوكو الكثير من نماذجه من الفنون التشكيلية والمسرح. والشيء نفسه يصدق على ترجماتي للوسائط الجديدة فهي منتقاة بدقة، وراهنيتها لا يشكك فيها أحد، فهي تواكب الحالة الحضارية الجديدة التي أفرزتها العوالم افتراضية التي دفعت بالوجود في الحياة إلى التراجع، لتُعد فضاء جديدا تسكنه الآن جالية جديدة تُعد بالملايين من البشر. لذلك لا تشكل الترجمات في منجزي الفكري سوى حيز صغير، يكفي أن أشير إلى المؤلفات التي أصدرتها في السنوات الأخيرة: -السرد الديني والتجربة الوجودية (سيصدر قريبا 2024) -الهوية السردية، المحكي بين التخييل والتاريخ، المركز الثقافي للكتاب، بيروت 2023 -التأويل وتجربة المعنى، المركز الثقافي للكتاب، بيروت 2023 -مدارات اللغة، بين الفصيح والعامي، المركز الثقافي للكتاب، بيروت 2022 -وتحملني حيرتي وظنوني، سيرة التكوين، المركز الثقافي للكتاب، 2021 -تجليات الصورة، سميائيات الأنساق البصرية، المركز الثقافي للكتاب، بيروت 2019 -سميائيات النص، مراتب المعنى، ضفاف، الاختلاف، الأمان، 2018 -بين اللفظ والصورة، تعددية الحقائق وفرجة الممكن، المركز الثقافي العربي، 2017. ومع ذلك شكلت الترجمة دائما عندي وعند غيري إسهاما كبيرا في المثاقفة وفي تأهيل اللغة العربية وتمكينها من مسايرة العصر وقدرتها على "حمل" علومه والتعبير عنها، إنها طريقة أخرى في اختبار قدرة اللغة العربية على تجاوز كل أشكال التفاوت في النمو بين مجتمعات تسير بسرعة مفرطة وأخرى " دَهمتها المدنيّة "، بتعبير فراس السواح، وهي لم تنجز بعد الكثير من ثوراتها. لذلك فالترجمة الموجهة والمدروسة، أي الترجمة المندرجة ضمن مشروع فكري يهدف إلى الاحتفاء باللغة العربية يمكن أن تكون أداة من أدوات التحديث والحداثة. فالترجمة هي أن نجعل اللغة العربية تتكلم لغات أخرى، ونجعل الفكر الوافد يستشعر راحة وهو يلج عالم اللغة العربية بجمالها وقوتها وأسرارها. لا يجب أن ننسى أن العربية استوت واستقامت كلغة منتجة للفكر والمعرفة عندما احتكت مع حضارات أخرى. * لك تركيز لافت على السيمياء وعلم الدلالة. ما الذي يمكن ان تصنعه السيمياء للقارئ العربي حاليا في ظل العولمة او مجتمع ما يسمى" الحداثة السائلة"؟ * جوابا على سؤالك أحيل قارئ جريدتكم على "الوصفة" الطريفة التي قدمها أومبيرتو إيكو منذ سنوات عندما سئل عن الدور الذي يمكن أن تلعبه السميائيات في محاربة العنصرية والتعصب. فقد أجاب عن هذا السؤال بالقول يجب تعليمُ الطفل أن ما يتداوله من تسميات لأشياءِ العالم وكائناته ليس سوى كلمات يستعمل غيرَها آخرون لتعيين العوالمِ ذاتِها، فالعالم موضوعي في ذاته لا في الوعي الذي يستقبله ويحوله إلى مفاهيم تحل محل أشيائه وكائناته وحالات وجود الناس. حينها سيُدرك أن الحقيقة ليست في لغته وحدها، بل منتشرة في كل اللغات. ولم يكن هذا الجواب مجرد تحديد لوظيفة ممكنة لعلم، أو هو صيغة للتمييز بين اللغات، بل كان يخفي في حقيقة الامر، تصورا شاملا لسيرورات التدليل وتداول الأشياء في الوقت ذاته. فنحن لا نستلهم من وجودنا المادي سوى الواجهات التي تُغطيها المعاني، فهي وحدها ما يستوطن الذاكرة، أما ما يتبقى بعد ذلك فتتكفل به الطبيعة وتُعيد إنتاجه ضمن دورتها اللامتناهية. فنحن نسكن لغاتنا، ومن خلالها نستحضر الأشياء والكائنات، لذلك نحن أسرى لغاتنا لا فاعلون أحرار داخلها كما نتوهم ذلك. استنادا إلى هذه الذاكرة تتناسل دلالات جديدة لا يربطها في غالب الأحيان أيُّ رابط بما نسميه العالم "الواقعي"، قد يتعلق الأمر برموز صريحة استودعها الإنسان قيما وأحكاما، أو هو لاشعور عميق تَشَكل في غفلة من الإنسان نفسِه فاستنسخ منه كتلا انفعالية استبطنتها الأساطير والطقوس والرغبات الغامضة. فلا دخل للأشياء والكائنات في ما تقوله الكلمات، فحقائق الوجود مُودَعة في كلام الناس لا في تفاصيل الطبيعة. إننا نحشو العالم بالمعاني لكي يصبح دالا علينا وحدنا. للعرب لغتهم النقدية والدليل أنهم يكتبون بالعربية ما يميز كيليطو هو ازدواجيته اللغوية وفحوى ذلك أن التسميات ليست امتلاكا فعليا لشيء، وإنّما هي بديل رمزي عنه، وأن اختلافَها ليس دليلا على تفاوت في قيمة ما نقوم بتعيينه، وإنما هو إحالة على تعدد في الرؤى وأشكال الحكم والتقدير لا غير. إن العالم الذي يقع تحت سلطتنا حقا هو الكلمات وحدها، أما الموجودات المادية فقابلة للتحَلُّل والضياع والنسيان. فما "يقلق" الإنسان، في نهاية الأمر، هو التصورات التي يملكها عن الأشياء، لا الأشياءِ ذاتها". فنحن نحضر في العالم من خلال ما تقوله الكلمات عنا، ونسكن أجسادنا من خلال ما يكشف عنه الحجم الدلالي فيها. إننا نولد قبل الولادة ضمن ممكنات اللغة. وتلك هي وظيفة الرمزي في حياة الناس، إنه، بكل أسناده، ليس استنساخا حرفيا لعالم، بل هو في الأصل تقليص لكل أشكال الحشو والتعدد والتنوع بغية الاحتفاظ بما يمكن أن يُشكل صورة ذهنية عامة تستوعب كل النسخ الممكنة، إن التسمية هي أداتنا لرد المتعدد إلى ضرب من الوحدة. وتلك هي المرتكزات التي قامت عليها السميائيات. لقد وضعت الإنسان في اللغة، أي في المعنى، وذاك هو الشرط الضروري من أجل وجوده في الثقافة فذاك شرط تحول إلى دازين بتعبير هايدغر. إن السميائيات في نهاية الأمر تؤكد التنسيب وتحتفي بالتنوع في الدلالة والثقافة وفي المعتقدات، إنها تُنبه الناس إلى أن ما يتم تداوله هو إفراز لسلوك مخصوص وليس قانونا يجب أن يعمم على الجميع. فاللغات لا تخلق عالما ولا فضل لهذه اللغة على تلك، فكل اللغات تستعمل من أجل تنظيم تجربة لا يمكن أن تصبح مرئية دون لغة. يتعلق الأمر بالإمساك بمعنى الأشياء في اللغة، كما هي في المعيش، لا كما تحيل على نفسها في الطبيعة أو ما يوهم به العرق. لا تأثير اليوم للثقافة العربية عالميًا * حدثنا عن الثقافة العربية وموقعها عالميا؟ -لا تأثير اليوم للثقافة العربية عالميا. فإذا كان أبناء الأمة لا ينظرون إلى العالم إلا من خلال ما تقوله الإنجليزية وما ينتج داخلها من علوم، فمعنى هذا أنهم لم يقتنعوا أو دفعوهم إلى الاقتناع أن المنتوج المحلي لا يلبي حاجات العصر وما يتفنن المتحكمون في الفضاء الافتراضي بوضعه في سوق الاستهلاك. فالعالم يعيش وفق إيقاع سريع تزداد سرعته كلما استحضرنا حالات الاستهلاك الذي يشمل اليوم كل شيء: الآراء والأفكار والمنتجات التجميلية وما يتطلبه العيش اليومي. فنحن في الزمن الراهن نبدع نظريات في لغتنا استنادا إلى تأملات تتمم في الغرب، وهذا ليس أمرا سيئا، فالوسيط اللغوي ليس كيانا محايدا. ولكننا لا نعتني بمنتجاتنا الثقافة في الداخل في أوساط جامعاتنا، نحن في حاجة دائما إلى من يصدق علسيها في الخارج. لذلك يجب أن نعمل على أن تصبح الثقافة العربية قوية في أوطاننا، قبل أن نفكر في تصديرها إلى العالم الغربي أو غير الغربي. إن قوتها تبنى محليا، فذاك هو شرط انتشارها خارج الأمة. إن العالمية ليست شرطا للخلود، فكثير من الادباء ظلوا خالدين في ذاكرة ثقافة قد لا تعرف عنها الثقافات الأخرى أي شيء. أسماء كثيرة تجوب الأقطار بلا مردود إن تراث الأمة اليوم مودع في الدين والتأليف الأدبي القديم وفي التقاليد والعادات، ولكنه معروض أيضا على السياح الذين يأتون إلى المغرب أو تونس أو الرياض أو دبي، فهؤلاء لا يأتون بحثا عن بن عاشور أو عن علال الفاسي أو ابن باز، بل بحثا عن نمط عيش الناس وطريقتهم في اللباس واستقبال الضيف والمعمار والطقوس الاجتماعية. وعدا ذلك لا يصل الشيء الكثير من الثقافة العربية إلى الغرب بأطرافه ومراكزه. إن المجتمع الذي يلهث وراء "ربح اقتصادي سريع" بذهنيات استهلاكية مطواعة، لا يهتم إلا لملما لما يمكن أن يحفظ هوية الأمة ويصون ذاكرتها. بنكراد متحدثاً للزميل الحربي