يُتهم الفنانون التشكيليون أحياناً بتعاليهم عن الواقع وبأن ما يقدمونه من أعمال فنية غير مفهوم ولا يُعبر عن الواقع كما يراه العامة الذين ترغب السياسات الثقافية للدول على اختلافها في تثقيفهم وتوعيتهم. وقد تكون هذه الفكرة صحيحة في جانب، لكنها لا تعني أن ليس هناك محاولات من فنانين تشكيليين للاندماج في المجتمع والتعبير عنه بالكلمة والريشة واللون والنحت وحتى تخصيص ريع الأعمال للمساعدة في النهوض بالمجتمع. "الفنان إنسان بسيط".. يقول التشكيلي عبدالعظيم الضامن: إن هذا السؤال هو سؤال استفزازي نوعاً ما، وأكد على أن الحقيقة عكس ذلك، وأن الفنانين التشكيليين ليس لديهم فوقية أو تعالٍ على الآخر، وأنه دائماً ما يرى من وجهة نظره أن الفنان هو إنسان بسيط يتعامل بذوق رفيع مع كل الناس. وبالنسبة للأعمال الفنية، أشار "الضامن" إلى أن لكل فنان بصمة خاصة تظهر بوضوح في أعماله الفنية، وأن كل فنان يحاول أن يرسل رسالته من خلال هذا الفن بأدواته الخاصة، وكل فنان - بحسب قوله - له أدواته الفنية الخاصة التي يضع من خلالها بصمته ويعبر بها عن أفكاره الخلاّقة. واعتبر أن التراث هو جزء مهم جداً في حياه الشعوب، وبالتالي فإن بعض الفنانين يتناولون أعمالهم الواقعية أو الكلاسيكية أو الانطباعية حتى من خلال نقل أو رصد الموروث الشعبي، وهي أيضاً رسالة جميلة وراقية وفقاً لقوله. ونوّه عبدالعظيم الضامن، إلى أنه إذا كانت الأفكار المطروحة من قبل بعض الفنانين فيها الاتجاه السريالي هي محرضة على التفكير ومحرضة على الانسجام مع الخيال وهكذا في الحال مع بقية مدارس الفن التشكيلي سواء الواقعية أو الانطباعية أو حتى التجريدية. ورأى أن التجريد فيه موسيقى جميلة جداً يتناولها الفنان بألوان مجردة، وأن هناك تجريداً لونياً مهماً وهو التجريد الموسيقي، وتابع بأنه حين نتحدث عن الموسيقى اللونية فإننا نتحدث عن الشيء المجرد الذي نسمعه ونتعامل معه وكذلك نشاهده. وحول تجربته الشخصية قال الضامن: أنا كفنان تشكيلي أتناول أعمالي الفنية الرمزية التي تتضمن بعض الشيء من الواقع وبعض الشيء من الخيال، وبالتالي فهو يزاوج بين الواقعية والانطباعية والسريالية في أعماله الفنية، وأكد على أن تلك الأعمال مقبولة ومشاهدة من قبل الجمهور الذي يتفاعل معها بشكل جيد، وهي أعمال تلقى دائماً تجاوباً كبيراً من قبل المهتمين بالفنون البصرية. "قيمة مهمة".. بينما قال الدكتور زيد الفضيل: إن الفن التشكيلي يُمثّلُ قيمة مهمة في عالم الفنون، لكونه قد مثل رمزاً من رموز النهضة الأوروبية في جانب، ولما يعكسه من مهارة يصنعها إحساس مرهف ووعي فكري عميق، ولذلك فالفرق كبير بين الفنان التشكيلي والرسام انطلاقاً من هذا المدلول، وعليه فغالباً ما يكون الرسام بسيطاً في أدائه ويحاول أن يطابق الواقع قدر ما يستطيع. وأما الفنان - ووفقاً لقوله - فيهتم بسبر أغوار ما يراه ليعكس في لوحته المسكوت عنه والمخفي، بشكل أنيق ودون أي فضاضة مزعجة، لهذا تجد النفس في بعض اللوحات راحتها، وقد تنفر من بعضها دلالياً وليس فنياً. ولفت "الفضيل" إلى أن الفنان الحقيقي هو الذي قد تشرّب وعيه بكثير من الرؤى والأفكار، فتجده متجدداً ينضخ من ماء متجدد، أما من توقف وظل حيث هو فلن تجده مبدعاً في تشكيله ودلالات ألوانه وأبعاد ريشته. ويؤمن الفضيل بأن الفنان الحقيقي الواعي سيكون أكثر قرباً من نبض الناس وتقلبات الشارع، بل سيكون سبيلهم للخروج من ضيقهم، والنجاة من واقعهم المعاش. مؤكداً أن الفن رسالة قبل أن يكون إبداعاً، وهو أحد مرتكزات النهضة الثقافية، وللأسف فلم يتبلور ذلك في وعينا العربي جملة، ولذلك لا نجد اهتماماً بمعارض الفن التشكيلي، بل ليس لدينا معارض دائمة لفنانين كبار يدلف إليها الجمهور ليُمعن بصره متأملاً في دلالاتها وبُعدها. "الفنان يسمو ولا يتعالى".. لكن التشكيلية مريم الشملاوي، بينت من وجهة نظرها أن الفنان لا يتعالى عن واقعه وإنما يسمو بإحساسه وفنه عن ظلمات الواقع، سابحاً بعيداً عما يزعجه في واقعه وواقع من حوله ليغوص في أعماق الحلم وما هو غير ممكن وليرتقي بإحساسه وبخيالاته، وليعبر ببصيرته آفاق الخيال، وينفذ بقلبه من نوافذ الواقع نحو لا محدودية عالم الخيال.. وليجسد بفرشاته ما يدور في فلكه بطريقته الخاصة، وليُعبّر عن الجمال الإنساني وليرتقي بالنفس البشرية. وأضافت، أن الفنان الخلاق هو من يتخذ مما يدور في مجتمعه موضوعاً وفكرة، فيرتقي بالفكر المجتمعي من حوله، ويطوع أدواته وموهبته في خدمة ما يدور حوله لينتج أعمالاً تتمحور حول مشكلات مجتمعه وإن تعددت الأساليب واختلفت الأفكار. "حرية الفن".. وأكدت الفنانة أمل القحطاني، على أن الفن حر، وينبغي أن يظل حراً، وأن كل فنان له مطلق الحرية في أن يتعامل مع الفن الذي يبدع فيه والذي يكون له فيه صولات وجولات. وقالت: إنها لا تنكر بأن الفنان جزء لا يتجزأ من المجتمع، مثله مثل كل مهنة، وعليه فيجب على الجميع أن يكون لهم بصمة حقيقية وواعية تجاه مجتمعاتهم، وأنه سواء كان الإنسان فناناً أو غير فنان، فعليه أن يقوم برسالة واضحة وهادفة، في أي شكل من أشكال العطاء. منوهةً أن كل عطاء وإبداع فني، بدايته مبادرة جميلة وحس إنساني. ولفتت إلى أن هذه الأمور تأتي من روح الفنان الوطنية، مؤكدة على دور كل فنان في النهوض بالقيم الإنسانية. "وسيلة لمدّ جسور التواصل".. ورأت الكاتبة والفنانة سُكينة الشريف، أن الفن لغة مرسلة من الفنان إلى المتلقين، وأنه من الطبيعي أن تكون هذه الرسالة ذات مستويات تتناسب مع تدرج الذوق الجمالي العام: فهناك من يهوى التعبير بالكلاسيكيّة وهناك من تجتذب حواسّه السرياليّة والتجريديّة. ولذلك وبحسب قولها، فإن الفن بحدّ ذاته وسيلة لمدّ جسور التواصل الفكري بين الفنان والناس: مع التأكيد على أن اختلاف مدارس ومناهل الفنانين التشكيليين يُعدّ مُثريًا لوعي هذا الكم الكبير والمتنوع من الأذواق المختلفة، ولذلك فإن الحكم على الفنانين بهذه الطريقة لا تراه سكينة الشريف منصفًا لما يجري على أرض الواقع. واعتبرت "الشريف" أن من وسائل انصهار الفنان مع بيئته التفاف الكثير من الناس المحبين لجمال التشكيل ومدارسه حوله، وعللت عدم إقبال الناس على شراء الأعمال التشكيلية، بعدم انتشار ثقافة اقتناء الأعمال الفنية، وحاجة المجتمعات العربية لنشر الثقافة البصرية، وأهمية معرفة العامّة بالقيمة الفنيّة والجماليّة للعمل الفني، وتقدير البصمة الإبداعيّة لكل فنان، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، انتشار اللوحات المطبوعة التجاريّة والمقلّدة وتسهيل عمليّة شرائها للمشتري. "سطوة الثقافة الغربية".. هذا وقالت التشكيلية منى شبيب السبيعي: إنها تتفق نوعاً ما مع ما طرح في مقدمة هذا التقرير، وأشارت إلى أن هناك عوامل مؤثرة أخرى قد تغير في اتجاه الفن التشكيلي نحو الواقع أو الخيال، ألا وهو تأثير الثقافات التشكيلية الخارجية وسطوة تلك الثقافات في المشهد التشكيلي سواءً من الغرب أم من الشرق، فيتولد لدى الفنان رؤية تشكيلية تخرجه عن المألوف، في محاولة منه للدخول في عالم الفن التشكيلي الذي يحاكي لوحات الغرب من حيث الغموض والسعي لإثارة التساؤلات لدى المتلقي حينما يقف أمام اللوحة. وأكدت على أن كل فنان يميل للخيال في أعماله! يبحث عن لغة حوار يكون بعيداً عن الواقع، وذلك بالرغم من أن هذا الواقع هو بمثابة دروب فنية يسعى من خلالها الفنان لخلق شيء مختلف. "المشاعر الإنسانية".. وتقول الفنانة التشكيلية أحلام المشهدي: إن الفن قبل كل شيء هو التعبير عن الأحاسيس والمشاعر الإنسانية الكامنة، بأي شكل كان وبأي أسلوب، ومعنى ذلك بحسب قولها، هو أنه لابد لكل عمل أن ينبع من إحساس عميق.. وهذا الإحساس من الممكن أن يوجه رسالة أو هدفاً إما بشكل صريح أو غير مباشر. ورأت "المشهدي" أنه من الجميل والمثمر أن يتفاعل الفنان مع قضايا مجتمعه، وبالتالي فإن المجتمعات ستتفاعل مع أعماله وتستمتع بها وبتأملها والاهتمام بها. ولفتت إلى أن هناك أعمالاً خالدة على مر التاريخ وحتى عصرنا هذا، ونجد مختلف المجتمعات تتفاعل معها، وضربت مثالاً بأعمال الفنان النمساوي غوستاف كليمت، الغارقة في الشاعرية الجذابة والتي تنقل البشر إلى عوالم جميلة ترتقي بهم وتنشر الحب والسعادة، وكذلك اللوحة الخالدة "الجورنيكا" لبيكاسو، والتي نرى فيها الرسالة الإنسانية الواضحة ومدى تفاعل البشرية مع هذا العمل المؤثر، وغيرها من الأعمال الخالدة. ونوّهت إلى أن ما يحدث في العصر الحالي في بعض الطرح الفني سواء في الشرق أو الغرب، بلا هدف أو قيمة، وأكدت على عدم وجود ثقافة بصرية، أو اهتمام بالفنون بوجه عام، انعكس سلباً على مختلف الفنون. الضامن: الفنان إنسان بسيط يتعامل بذوق رفيع الفضيل: الفن رسالة قبل أن يكون إبداعاً الشملاوي: الفنان لا يتعالى عن واقعه وإنما يسمو بإحساسه