مع بدايات القرن الحادي والعشرين أصبحت الثورة المعلوماتية واتساع حجم المعرفة يشكلان تحديا أمام نظم التعليم التقليدية ومؤسساتها، وبالتالي تسبب اتباع الأساليب التقليدية في تعليم العلوم والرياضيات بطريقة نظرية وأحادية بل ومنفصلة عن بعضهم البعض وبمعزل عن العالم الخارجي ومجرياته، إلى عزوف الطلاب عن دراسة العلوم والرياضيات لعدم استفادتهم من هذه الموضوعات في الواقع العملي وحياتهم اليومية، وعدم قدرتهم على تقديم حلول لتحدياتهم اليومية في مجتمعاتهم المختلفة، مما تطلب دراسة هذه الظاهرة، فبدأت الحكومات بإجراء بحوث لتقييم مخرجات مؤسساتها التعليمية لمعرفة أوجه القصور، ومناطق القوة، وتقديم الحلول المستقبلية العملية التي تستطيع من خلالها ضمان وجود أجيال واعدة جديدة، يتميزون بقدرات ومهارات علمية ومهنية متكاملة وداعمة تمكنهم من طرح حلول أكثر فاعلية للمشكلات الاجتماعية والاقتصادية والتقنية وغيرها. ومن ضمن نتائج هذه الأبحاث، جاءت التوصية بضرورة البحث عن طرق ووسائل تحبب وتشجّع، بل وتجذب الطلاب لتعلم العلوم والرياضيات، وهنا برزت أهمية التكاملية المترابطة والمتداخلة بين العلوم المختلفة والتكنولوجيا بل وتطبيقاتها كضرورة أساسية من ضروريات الحياة، ومن المنهجيات الحديثة والتي لم تكن وليدة الصدفة بل كانت نتاجًا لتطور العديد من هذه الأبحاث وعدد من الحركات الإصلاحية التعليمية، منهجية "ستم" أو STEM كما ينطق باللغة الإنجليزية والتي هي اختصار لأول 4 أحرف من المواد الدراسية الأربعة (العلوم Science والتكنولوجيا Technology والهندسة Engineering والرياضيات Mathematics). وتلا ذلك أهمية إضافة علوم الفنون Arts ليصبح ستيم STEAM ومن ثم إضافة مهارة حب القراءة Reading ليصبح ستريم STREAM. وقد ارتأت هذه المنهجية إلى ضرورة تحقيق وحدة تكامل المعرفة ودمج هذه المجالات العلمية حتى يكون التعلم شاملا ومرتبطا بالواقع الذي تعيشه المجتمعات العالمية وواقع الطلاب، مما يساعدهم على إيجاد الحلول للمشكلات والتحديات العصرية الحديثة والمستقبلية عبر أجيال عديدة. ولقد ركزت منهجية تعليم ستم أو ستيم أو ستريم على أهمية توفير بيئة تعليمية محفزة ومناسبة للطلاب وذويهم، تساعدهم على الاستمتاع والتعلم مدى الحياة، وذلك من خلال وِرش عمل ومسابقات في العلوم والتكنولوجيا والهندسة والمهارات العملية، بعيدا عما يتم داخل الفصول الدراسية من تعليم المفاهيم النظرية بشكل تقليدي، تقوم هذه الورش والمسابقات بتعزيز مهارات فكرية تعليمية مرتبطة بالتطبيق العملي، مما يساعد الطالب على فهم وإدراك مفاتيح العلوم المختلفة بطريقة سهلة وبأسلوب التعلم بالاكتشاف أو باللعب، بحيث يمتد أثر تلك المهارات ليشمل كل نشاطاته التعليمية في الحياة وعلى مدى الحياة. ولقد كانت المملكة في مصاف الدول المتقدمة في استخدام منهجية ستيم تماشيًا مع رؤية المملكة 2030 وأهدافها السامية للنهوض بالبنية التعليمية على قاعدة علمية وتطبيقية صلبة مبنية على طرح متكامل، ومتجانس، ومترابط للعلوم والمعرفة بشتى فروعها، بهدف الإسهام بوضع المملكة في جادة الدول المتطورة اجتماعيًا، واقتصاديًا، ورقميًا، وتقنيًا وعلميًا. وانطلاقًا من ثقة القيادة في عزيمة وهمة شعبها ورغبة الشباب السعودي الواعد، إناثا وذكورًا، في الإبداع والابتكار، أتاحت المملكة الفرص التعليمية المتنوعة لمنهجية ستيم في بعض المدارس وبرامج الموهوبين التي تطرحها مؤسسة الملك عبدالعزيز ورجاله للموهبة والإبداع "موهبة" للطلبة المتفوقين في بعض صفوف الثانوية. ومن الواضح أننا نعيش في عالم رقمي تعلوه الكثير من المتغيرات التي تستلزم الإعداد لها برؤية علمية وتقنية ثاقبة، لمواجهة تحدياتها ومواءمتها لمتطلبات رؤية المملكة. وبما أن العملية التعليمية، مسؤولية اجتماعية، مؤسساتية وفردية، هذه المسؤولية تنطلق من المفهوم العام لكلمة "علم"، فالعلم هو المعرفة في المجالات المختلفة كالطب والهندسة والعلوم الإدارية وغيرها، ووسائل نقل هذه المعرفة أو العلم لا تقل أهمية للنهوض ورفع كفاءة الفرد وعطائه في المجتمع، فإن تطوير العملية التعليمية وتقنينها ما هي إلا جهود تتمحور أهدافها حول تطوير الكوادر السعودية وتنمية قدرتهم في وضع الحلول المناسبة، وتعزيز شغف المعرفة والفكر الإبداعي لديهم لتحقيق التنوع في مصادر الدخل الاقتصادي السعودي، وبالتالي تحقيق رؤية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان -يحفظهم الله-. وتحقيقًا لهذه الأهداف نشأت رؤية حرم سمو ولي العهد، صاحبة السمو الملكي الأميرة سارة بنت مشهور بن عبدالعزيز آل سعود ومبادرتها الكريمة لإنشاء مركز "عِلمي لاكتشاف العلوم والابتكار" في أعلى قائمة الجهود المبذولة لإتاحة الفرصة للجميع من أبناء وبنات وطننا الغالي للتعلم الذاتي واستقاء المعرفة والاستمتاع بها مدى الحياة، من خلال منهجية جاذبة وتكاملية تربط بين النظرية والواقع. تأتي انطلاقة مركز علمي لاكتشاف العلوم والابتكار التي أعلنتها حرم سمو ولي العهد ورئيسة مجلس إدارة "عِلمي"، صاحبة السمو الملكي الأميرة سارة بنت مشهور بن عبدالعزيز كتظاهرة ثقافية لمواكبة التطور العالمي في تحسين التعليم ومخرجاته ليس على مستوى المملكة العربية السعودية فحسب، بل على مستوى الوطن العربي والإسلامي بل والعالم أجمع. فمع إعلان سموها انطلاقة المشروع ابتدأت مسيرة العمل والإنجاز لتحقيق رؤية سموها ليكون "مركزا علميا" منارة لاستشراف المستقبل، ونافذة فريدة إلى هذا العالم المليء بالفرص الواعدة، ومنفتحًا على مراكز الفكر والمعرفة والإبداع في العالم، ومستوعبًا لكل جديد ومفيد من العطاء الإنساني، ليبقى رمزًا للعلم والعلماء على مر الأزمان والعصور. فاستخدام مركز "عِلمي" لمنهجية ستيم التكاملية التعليمية الشاملة في استقاء واستلهام المعرفة لطلاب المدارس وذويهم وجميع أفراد المجتمع في بيئة مبتكرة وممتعة تتجاوز الأُطر التقليدية ومحفزة للتعلم مدى الحياة، هو ما يميزه عن المؤسسات الأخرى التي تقدم نفس المنهجية التعليمية، كما أنه سيكون الأساس الذي يستند عليه خريجو الجامعات للتأهل لمهارات القرن الواحد والعشرين والالتحاق بالوظائف المستقبلية التى تتطلب الخبرة العلمية في تلك المجالات. أما على المستوى البحثي فإن المركز العلمي سيكون إن شاءالله واحة حاضنة للملهمين والمفكرين والمبتكرين من الأجيال الواعدة، كما أنه منصة متكاملة ووجهة وطنية رائدة للمعرفة، حيث يمكن للعائلة والأصدقاء خوض رحلة تفاعلية وتجارب غامرة، من خلال طيف واسع من المعارض التي تبحث في موضوعات متنوعة في مجال العلوم والتكنولوجيا، ما يخدم المجتمع وخططه المستقبلية في بيئة البحث والتطوير والابتكار بالمملكة وريادة الأعمال. *رئيس جامعة عفت