أكد الباحث والمؤرخ فؤاد بن ضيف الله المغامسي، أن المدينةالمنورة غنية بكنوز الآثار التي لم تكتشف حتى اليوم، وأن التنقيب والترميم والبحث المتخصص ما زال شحيحًا؛ لعدم وجود مؤسسة وطنية مهتمة أو راعية، متهمًا الجهات التعليمية بالتقليل من أهمية أقسام التاريخ، ومبديًا أسفه على تراجع إنتاجية المؤرخين التي تراوح استنساخًا دون الوصول إلى الصناعة المتقنة رغم التخمة المعلوماتية وتعدد المصادر، مشيرا إلى أهمية تحلي المتصدر لهذا الفن بالمصداقية والموضوعية والتجرد، وتفهم المدارس والانتماءات الفلسفية للمدونين، مشككًا في نزاهة ودوافع المستشرقين الذين خدموا أنفسهم قبل أن يقدموا خدمة للبلدان التي ولجوا تاريخها وتراثها حسب وصفه، وإلى نص الحوار: المؤرخون متقاعسون رغم التخمة المعلوماتية * متى بدأ اهتمامكم بالآثار والتاريخ؟ وبمن تأثرتم؟ * علم التاريخ دليل حاضر، والآثار حجة قائمة، وهاتان تعززان الهوية والانتماء، ومن خلال هذين ومع ميول كامل نحو هذا الفن والعلم زاد شغفي، وعززت لدى نفسي المضي في سبر غور الماضي، سواءً المرتبط بالمدينة كبقعة لها في التاريخ أهم سطر، أو كباحث في التاريخ الحديث، حريص على التحقيق والدراسة والتحليل والتفسير وفق المنهج العلمي. أما بالنسبة إلى التأثر، ففي كل مرحلة من مراحل الاهتمام البحثي والتاريخي، كان هناك من نتأثر بهم حتى تتضح منهجية الباحث، ومنهم المؤرخ جورجي زيدان، الذي كتب عددًا من الكتب التاريخية عن تاريخ التمدن، وسلسلة من التاريخ الإسلامي، وتميز في تدوين تفاصيل الحياة الاجتماعية، ومن ثم أصبحت الحاجة ملحة إلى فهم المنهجية التحقيقية، فكانت الدراسات العليا انطلاقة نحو قراءة التاريخ بعيون الباحث، فكانت الاستفادة من أساتذة عظام في جامعاتنا، فمن كل مؤرخ فيهم كان له تأثيره الخاص لدي. الحاجة ملحة إلى مؤسسة وطنية تهتم بالتنقيب والترميم * هل المؤرخ معني بالجوانب المشرقة دون المظلمة؟ وهل تحد الرقابة من إنتاجية الباحث؟ * لا بد للإجابة عن هذا السؤال أن ندرك أن هناك عدة أمور ومبادئ، أولها أن الخبر التاريخي له عدة زوايا يقرؤها الباحث أو المؤرخ، وثانيها أن كل مؤرخ حريص على التجرد والموضوعية، وأيضًا حريص على النقد ونقد الخبر، ولكن المدارس التفسيرية والتحليلية يختلف فيها منظور التجرد والموضوعية من مدرسة لأخرى؛ لذلك فهم المدارس التفسيرية التاريخية، وفهم الانتماء الفلسفي لها، هو ما يجعل المؤرخ يرى الجانب المظلم مشرقًا، والجانب المشرق مظلمًا من خلال النقد وأسلوب القراءة، فالبعض يفسر الهزيمة والهروب من أرض المعركة في الخبر التاريخي حنكة عسكرية، وآخر يفسرها جر العدو لمواجهة أخرى، وآخر يفسرها خيانة، أما الرقابة على الإنتاج التاريخي فأرى أن دورها لا يكاد يذكر، فالإنتاج التاريخي لا يخضع لها بمفهومها العام، فهو تدوين لأحداث وفق مصادر ومراجع ووثائق وشواهد وشهود. الجهات التعليمية لم تعطِ أقسام التاريخ أهمية * هل كتابة التاريخ مجرد استنساخ للوقائع الماضية، أم صناعة لها أسسها ومنهجيتها؟ * التاريخ علم وفن له قواعده، وقوانينه، ونظمه، ومدارسه، ومنهجه، والوقائع التاريخية الماضية هي مادة التاريخ، ففيها الخبر، ومنها تصاغ كتابة التاريخ الذي يعتمد على مقومات وشروط، أهمها: الأمانة، وتحري الصدق، والبحث عن الحقائق، وهذه الثلاثة أدوات لاستنساخ الخبر أو الرواية من شواهدها وشهودها ووثائقها ومصدرها الأول والوقائع أيًا كانت، فهي حدث قد وقع ودونه ونقله المعني، فأصبح الأخذ به من لوازم التدوين، وهنا يأتي المؤرخ ليخضع هذه الواقعة أو هذا الحدث إلى منهجية علمية هي مفتاح لكتابة التاريخ بين الاستنساخ والصناعة. * تقييمكم لأثر المستشرقين على تاريخنا العربي والإسلامي وتناقل المؤرخين أحداثًا مزورة أو محرفة، ومدى انحسار هذا الدور حديثًا؟ المستشرقون خدموا أنفسهم قبل أن يخدمونا * نقل لنا المستشرقون مادة علمية وتاريخية وثقافية وأدبية عن تفاصيل الحياة الاجتماعية، والاقتصادية، والصحية، والتنظيمية، والعسكرية، والعمرانية، ووثقوا كل ما تقع عليه أعينهم، وذابوا في المجتمعات، وعاشوا في الفيافي والصحاري والقفار حتى يقدموا مادة علمية تخدمهم قبل أن تخدمنا، أمثال المستشرق ليون روش، وجون لويس بريكهارت، والكابتن سادلير، وفرنسيس ريتشارد بيرتون وغيرهم، فدوافعهم تتفاوت ما بين دينية وعلمية وتجارية وعسكرية، وهم ما بين منصف وغير منصف، أما الآن في عصرنا الحاضر فأصبح مصطلح الاستشراق عند الغرب أو عندنا يعتمد على التراث الذي تركه أوائل المستشرقين، والعصر الرقمي جعل المعلومات بين أصابع محركات البحث. * مع الانفتاح المعرفي يظل تدفق المنتج التاريخي والأثري محدودًا، فهل يعزا ذلك إلى صعوبة الوصول إلى المادة الوثائقية أو تقاعس المؤرخين؟ * الاقتراب من التاريخ وعلمه كهواية حق مكفول فالتاريخ هو الثقافة، ولكن تدوين التاريخ مرتبط بالاختصاص، وهناك تقاعس من قبل المؤرخين، فالمادة العلمية والوثائق التاريخية والأرشيفات والمراكز البحثية في وطننا الغالي مثل دارة الملك عبدالعزيز تبذل جهدًا كبيرًا في جمع المادة العلمية للمؤرخين، وكذلك مركز بحوث ودراسات المدينة، ومؤسسة الملك سعود للأبحاث والدراسات تقدم للباحثين كل الموارد والمواد للباحثين، وأيضًا المراكز البحثية في دول الخليج وغيرها، فالمادة العلمية من وثائق ومصادر ومراجع متوافرة، والوصول إليها مع عصر التقنية أصبح أكثر سهولة، ولكن تكمن المشكلة في تقاعس الجهات التعليمية بإعطاء أقسام التاريخ أهمية أكثر، وجزء من هذا التقاعس يتحمله المؤرخ، فلا أعتقد أنه يوجد زمن الحصول على المعلومة التاريخية أسهل من هذا الزمن. * المدينةالمنورة حاضنة الشواهد الإسلامية العتيقة، كم تحوي اليوم من الآثار الباقية والمندثرة؟ وهل الحاجة ملحة إلى التنقيب والترميم؟ * المدينة ثرية بتراثها ومعالمها الجغرافية المرتبطة بتاريخها كجبل أحد، جبل عينين «جبل الرماة»، وادي قناة، المهاريس، وادي العقيق، بطحان، الحرتين واقم والوبرة، كذلك الآبار والبساتين، والمساجد التاريخية، والقلاع، والحصون، والمباني التاريخية كمحطة سكة حديد الحجاز وغيرها، ومع الاهتمام الملحوظ والملموس من القيادة من لدن خادم الحرمين الشريفين- حفظه الله - وأوامره التي عنيت بالمساجد التاريخية، وبعض بنود رؤية ولي العهد التي خصت المعالم والمواقع التاريخية والمتاحف الإسلامية باهتمام فيها، هذا عدا الجهود والوقوف الميداني من أمير المنطقة بعقد المؤتمرات التي تهتم بالترميم والعناية، بل الأنسنة التي أشرفت عليها الجهات المعنية لتحويل المناطق التاريخية إلى أكثر جذبًا مع إبراز قيمتها التاريخية، وما زالت هناك حاجة ملحة، بل هناك معالم تاريخية تحتاج إلى إعادة بحث أكاديمي وترميم وتنقيب أثري، فالمدينة غنية بالآثار والمواقع والمعالم. * تعزيز البعد الإنساني للمدينة مشروع مهم، ما أثره على المعالم الأثرية؟ وانعكاساته الثقافية والاجتماعية؟ * المدينة تضم إرثًا تاريخيًا وأثريًا وحضاريًا، ومدلولات ثقافية أثرت بشكل كبير، وأعطت انعكاسًا ثقافيًا واجتماعيًا وجميع المواضع التاريخية والأماكن التراثية يتدفق عليها الزوار كل عام، جميعهم محملون بمعلومات حفظتها كتب التراث الإسلامي التي كانت في كثير من الأحيان سببًا في حفظ المواقع التاريخية من الاندراس. إن الأثر الأكبر والملحوظ هو الشوق والحنين لدى كل زائر يقف على مواضع شاهدة على سيرة خير الخلق صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام. * حدثنا عن تجربتكم البحثية ومشروعاتكم المقبلة؟ * مشروعاتي البحثية أكاديمية ووثائقية، والمملكة اليوم تشهد حراكًا ثقافيًا في شتى المجالات، وميدانيًا حرصت على استنطاق المعلم التاريخي، وربط المكان بالحدث؛ لأهمية ذلك في فهم كثير من الأخبار التاريخية، كذلك اهتم زوار وضيوف المدينة من حيث الثقافة السياحية بالوقوف على كل ما يخص التراث والتاريخ فيما يعرف بالجولات الميدانية وهيئة السياحة والتراث الوطني متابعة وداعمة، وأيضًا العمل جار على برامج تدريبية للباحثين والمرشدين السياحيين الذين يعدون سفراء الوطن في أرضه. فؤاد بن ضيف الله المغامسي المصداقية والتجرد لمن يتصدر التدوين المتخصص ضرورة
