يقول البعض من المتحذلقين للمسرح إنها ظواهر مسرحية لأنها لم تتطور وتترك أثراً لما يسمى بالمسرح، فاليونان والرومان طوروا من ظواهرهم وألعابهم حتى أصبح ما بين أيدينا نمارسه مسرحاً، فلماذا نمقت المسرح ونهاجمه وننكره وهو ديدن أهلنا في أعمالهم اليومية وسمراتهم في ليالي الصيف المقمرة؟.. المسرح هو عاطفة تتسلل إلى الوجدان، هو فعل يتطور عبر حتمية الفعل نحو الأزمة، تاركاً أفقاً واسعاً من الترقب والنشوة من فرط الدهشة حينما يتكسر هذا الأفق الممتلئ بالصراع بكل أنواعه. هذا هو المسرح والذي لخصه منظروه في وجود مكان به نظارة يشاهدون أشخاصاً يلعبون عبر نص من الأقوال والأفعال. هذا هو المسرح ببساطة شديدة إذا ما توفرت فيه تلك العناصر الأربعة ( مكان، شخصيات، نص، جمهور)؛ فلماذا نأزم المسألة وننظر للمسرح وكأنه فعل غريب يجتاح ثقافتنا؟ المسرح هو ما كان أهلنا يمارسونه في أعمالهم اليومية، ويقتنصون الفرصة من فسحة الوقت لكي يلعبوا ويتسامروا، يغنوا ويرقصوا، ويمثلوا ويقلدوا، وهم في نشوة بهيجة تخلق لهم المتعة، وعلى سبيل المثال: كانت الحطابات في قريتي الصغيرة يذهبن الفجر لأعالي الجبال وهن جماعات، يغنين طيلة الطريق وهن محتزمات بحبال الجلد المضفور (النسعة)، وكأن زياً صنع خصيصاً لهذه المهمة ترتديه الشخصية، فيجمعن حزم الحطب ويتفنن في رصه حتى يكون شكلاً جمالياً، فحين تراهن وهن عائدات في صف واحد وقد أخذت تلك الحزم على ظهورهن شكلاً واحداً متناسقاً بلغ في صورته إحدى لوحات الفنون التشكيلية الرائعة، وقي منتصف الطريق يضعن حزمهن للاستراحة، وفي حلقة متحلقة يطلقن العنان لخيالهن فتقوم إحداهن بالتقليد والمشاهدات يتابعنها بالاستحسان أو الرفض، والأخرى تطلق عقيرتها بالغناء الآسر فيزيد من قوته ذلك الرجع بين الجبال العالية! وبعضهن يخلقن حواراً بينهن والأخرى لتقليد شخصية منهن لتكشف بذلك كنه شخصيتها وعليه تقمن جميعهن بركلها أو ضربها أو استحسان الأمر إذا ما وجد ذلك صدى في أنفسهن اتجاه الشخصية البطلة. أليس ذلك هو المسرح، أليس ذلك فعلاً تلعبه شخصية أمام النظارة عبر نص مرتجل؟ يقول البعض من المتحذلقين للمسرح إنها ظواهر مسرحية لأنها لم تتطور وتترك أثراً لما يسمى بالمسرح، فاليونان والرومان طوروا من ظواهرهم وألعابهم حتى أصبح ما بين أيدينا نمارسه مسرحاً، فلماذا نمقت المسرح ونهاجمه وننكره وهو ديدن أهلنا في أعمالهم اليومية وسمراتهم في ليالي الصيف المقمرة؟ إن سؤالي هذا لجمهور العامة وليس للمتخصصين، فالمسرح الآن أصبح مقبولاً إلى حد ما، ولكن سؤالي هذا ما هو إلا عتب لمن أخروا تطور المسرح وفنه الرائع ومتعه لأكثر من ثلاثين عاماً، وهم لا يدركون أن أسلافنا كانوا يقتاتون على اللعب والفرجة في ساعات تحت ضوء القمر! دعونا نتأمل طقس عامل البئر وهو ينزع الماء من البئر؛ ومسرحه المنحى الذي يمتد لعدد من الأمتار بعمق البئر يتوسط ثوريه ذهاباً وإياباً لاستدعاء (الغرب) وهو الدلو الكبير بين قرني البئر، وأعتقد أن ذلك يمثل توصيف المشهد المسرحي، فتتوافد النظارة أو قل المشاهدون يتخذون طرفي المنحى مكاناً لهم يسمعون أشعاره التي يرتجلها فتصبح حكماً فيما بعد يتوارثونها كأقوال مأثورة! على أطراف «المنحى» وعلى جانبي مجرى الثيران، يجلسون يستمعون وينفعلون ويرقبون، ذلك الصراع النفسي الذي يطلقه شاعر البئر، وكأنه أغاني (تثبس) الممثل الأول لدى اليونان الذي تطور فيما بعد إلى اثنين ثم ثلاثة، وإن ما يفعله عامل البئر فهو أشبه ب (المونودراما) وهو يشتكي على سبيل المثال لوعة فراق طفلته الصغيرة فيقول: «ياورع ياللي كن رفة عيونه.. جنحان غربان مع العصر رواح) إن تلك الأغاني والأشعار العربية قد وثقت كأصول للشعر في عمق التاريخ إلا أنني رأيت أن من واجبي أن أوثق فيها جوانب الطقس المسرحي، فإذا كان المسرح رسالة إعلامية بمفهوم «رسالة من مرسل إلى متلقٍ عبر قناة» فإن طقس عامل البئر هو رسالة إعلامية مسرحية بمفردات المسرح، فيه «اللاعب» وهو عامل البئر، وفيه «المكان» وهو «المنحى» وفيه «النص» المتمثل في أشعار عامل البئر، وفيه أيضاً «الصراع الذي تقوم عليه الدراما والمتمثل في الأزمة النفسية» التي يعاني منها الشاعر، وهناك حوار أيضاً حينما يرد على عامل البئر شاعر آخر حينما يرى أنه يستوجب الرد، ويعرف هذا اللون ب»شعر الرد» ومن يريد التفاصيل يرجع إلى كتاب العادات والتقاليد في المملكة العربية السعودية لكاتبة هذه السطور. كما يورد نصوصاً كثيرة في التغني بالماء وحفر الآبار، والماء من المصادر الأساسية التي ألبسها العربي القديم ثوب الحتمية الحياتية، لما لحياته وحياة الخلق من حوله من ارتباط بوجودها. من هنا يمكن ترجيح الرأي الذي ينتصر إلى ربط أولية الشعر عند العرب بحفر الآبار واستخراج الماء، لذا «نجد في كتب السير شعراً قيل في حفر بئر زمزم، وفي آبار أخرى، مما يدل على أن العرب كانوا قبل هذا العهد، إذا حفروا بئراً، قالوا شعراً فيها، وهو شعر يمكن أن نسميه شعر الآبار، وهو يعود ولا شك إلى عرف قديم، قد يتقدم على الميلاد بكثير، وهو يجب أن يكون من أقدم ما قيل من شعر، لما للبئر من أهمية في حياة العرب، وبذلك: إن أهمية المسرح هي أهمية الفرجة الشعبية التي كان أسلافنا يمارسونها، لكن عدم تطوره لدينا هو بسبب تلك النظرة الدونية للمسرح، فإلى زمن قريب كان ينظر إليه أنه دار للهو، وليس قناة إعلامية مهمة تحتوي على المتعة والوجد وفي باطنها هم جمعي ووعي تام! ولذا تأخر المسرح وتأخر الإبداع فيه وهو أبو الفنون، فهل ننظر للمسرح نظرة منصفة! Your browser does not support the video tag.