عُدت معاهدة فرساي 1919م في الذاكرة الألمانية من أقسى المعاهدات شروطاً ومن أكثرها استحالة في التنفيذ وقد كان الهدف الأول من وراء هذه المعاهدة هو تقويض الاقتصاد الألماني وقد جاءت المعاهدة فور انتهاء الحرب العالمية الأولى، حيث فرضت القوات المنتصرة الولاياتالمتحدة وبريطانيا العظمى وفرنسا وغيرها من دول التحالف بنودًا تُحسب ضدها كان من أهمها بنود عسكرية واقتصادية، وتم وضع إقليم «سار» الصناعي تحت إدارة عصبة الأمم لمدة خمسة عشر عامًا، وخسرت ألمانيا 13 % من أقاليمها الأوروبية وعشر سكانها (بين 6.5 و7 ملايين نسمة). وعلى الرغم من ذلك امتلأ التاريخ الألماني بالكثير من قصص الابتكار والنجاح حتى أثناء خوض بلادهم غمار الحروب، ففي عام 1924م بدأ أدولف آدي داسلر بتصنيع أحذيته الرياضية في مطبخه الخاص بمنطقة بافاريا وذلك بعد عودته من الحرب العالمية الأولى، وانضم إليه شقيقه رودولف رودي داسلر وأسسا معاً مصنع الأخوان داسلر لصناعة الأحذية ثم ازدهر العمل بهذا المصنع، وفي دورة الألعاب الأولمبية 1928م، ذاع صيت هذه الأحذية إذ قام داسلر بتجهيز العديد من الرياضيين بهدف توسيع نشاط الشركة على المستوى الدولي، وحصدَ مصنعه العديد من الجوائز والثقة من المستهلك الألماني والأوروبي على حد سواء، وفي أواخر الحرب العالمية الثانية، تحول المصنع لإنتاج الأسلحة المضادة للدبابات، وفي عام 1947م انفصل الأخوان في مشروعهما، فأسس رودي «شركة بوما» وأسس آدي شركة «أديداس» الشهيرتين اليوم في كل قارات العالم! ويكمن سر نجاح هاتين الشركتين أنهما استطاعتا النجاح في ظل أحلك الظروف وأصعبها، ففي الأعوام الأولى من الثلاثينيات من القرن العشرين، كانت الحالة الاقتصادية في ألمانيا قاسية، وضرب الركود الاقتصادي الذي ساد في جميع أنحاء العالم ألمانيا ضربة قاصمة، وانتشرت البطالة بين الكثير من الشعب الألماني، ولم يزل حاضرًا في أذهان الشعب الألماني هزيمته المخزية قبل خمسة عشر عامًا وشيئاً فشيئاً فقد الألمان الثقة في حكومتهم الضعيفة. لكن على الصعيد الآخر كان هناك أُناس من الشعب الألماني ذاته، يقرعون ناقوس الأمل من بعيد، حيث عمدوا إلى الاستعانة بمنتوجاتهم اليدوية وجددوا الثقة بها، مُدركين أهمية الاقتصاد للبلد ليضمد جراح الهزيمة. وأتاحت هذه الظروف اليائسة الفرصة لظهور قائد جديد، هو أدولف هتلر، وحزبه المعروف بالحزب النازي، وعلى الرغم من أن هتلر كان من المتحدثين الأقوياء وامتاز حكمه بسمة الديكتاتورية إلا أنه أثناء الحرب العالمية الثانية 1939-1945م توّج الشعب الألماني بهزيمة أكثر فداحة من ذي قبل، وتوالت الخسائر الاقتصادية على ألمانيا. الاعتداد بالإنتاجية في أقسى الظروف.. الألماني أنموذجاً وما يهمنا الآن ردود الفعل من الشعب الألماني، كيف ساعد الألماني بلده في النهوض بالاقتصاد من جديد؟ ساعدها بالروح العالية والواثقة بما تنتجه من منتجات يدوية، ومن ذلك؛ فقد ظل مصنع الخزفية في فورستبيرغ صامداً أمام ظروف الحربين العالميتين الأولى والثانية، وحقق أرباحاً هائلة، واليوم يعد هذا المعمل ثاني أكبر معمل للخزف في أوروبا، وتكمن شهرة وسر إقدام الناس على شراء هذه المنتجات كونها تُصنع على يد مصنّعين ألمان بكل مهارة واتقان. وفي عام 1886م حصل المهندس الألماني كارل بنز على براءة اختراع أول سيارة بالعالم، أهدى هذا المهندس للعالم شيئاً لا يمكن وصفه إلا بكلمة واحدة «عظيم» هذا الاختراع كان له علاقة مباشرة في تشكل نمط الحياة التي نعيش فيها -هذا ما قاله غالبية المؤرخين في التاريخ الاقتصادي- وقد أسس كارل شركة «مرسيدس» ومنذ ذلك الوقت ومرسيدس ما زالت تتحف الشعوب بسياراتها التي تعتبر من أشهر وأفخم السيارات في العالم. ولا يغيب عن أذهاننا شركة BMW التي تأسست في أثناء الحرب العالمية الأولى! عام 1916م واتخذت من ميونيخ مقراً لها، وتعود جذور تأسيسها الحقيقية إلى عام 1880م عندما كان يقتصر دورها عسكرياً بحت حيث كانت تموّل سلاح الطيران الألماني في ذلك الوقت وفي عام 1928م بدأت بتصنيع السيارات، وتنتج اليوم BMW السيارات في ألمانيا والبرازيل والصين والهند وجنوب أفريقيا والولاياتالمتحدة، وفي عام 2015م حصدت BMW المرتبة ال12 بين أكبر شركات العالم المنتجة للسيارات حيث أنتجت حوالي 2,279,503 سيارة. وعلى الرغم من أنه أثناء الحرب العالمية الثانية عام 1945م، دمر السوفييت المصنع الرئيسي ل BMW في ميونخ بشكل كامل تقريباً، بيد أن الألمان استطاعوا أن يقاوموا الشراسة السوفييتية باستمرار أعمال الشركة من خلال صناعة الدرجات النارية والحلل والمكابح واستطاعت الشركة أن تقف على قدميها من جديد. وقد جاءت النهضة الحقيقية لBMW عام 1966م بطرحها للسيارات ذات المواصفات والمقاييس العالية وفي عام 1968م أنتجت الشركة عدة أنواع من العربات الكبيرة (BMW 2500,2800,30SL) والتي أثارت حماسة الخبراء بسبب قوتها وسلاستها! هذه نماذج بسيطة وقليلة من التاريخ الاقتصادي الألماني، عنوانها الكفاح وأعمدته الأيادي العاملة الألمانية التي رفعت من كفاءة وجودة المنتوجات للبلد، وأتت جودة هذه المنتوجات نتيجة لثقة المواطن الألماني بنفسه وبأبناء وطنهِ، فلا ثمار تُجنى دون الثقة بما تصنع يداك! مهما تعددت لديك مقومات الاقتصاد! وعلى أي حال فألمانيا اليوم تمتلك أكبر اقتصاد محلي في أوروبا، وتحتل المركز الرابع بعد كل من الولاياتالمتحدة والصين واليابان، ساعد على ذلك العديد من العوامل أهمها الأسلوب والتاريخ والاعتداد بالذات التي اكتسبها الألمان من حيث قدرتهم الكبيرة على اتقان العمل. وقد بلغت قيمة صادراتها 1.333 ترليون دولار عام 2006. يساهم قطاع الخدمات بنحو 70 %، والصناعة بنسبة 29.1 %، والزراعة بنسبة 0.9 %. أكبر نسبة من المنتجات هي السيارات والمعادن والماكينات، وألمانيا هي منتج أساسي لتكنولوجيا الطاقة الشمسية في العالم. وعلى الصعيد الآخر هناك الكثير من دول العالم لم تمر بظروف قاسية كألمانيا، ومن بينها المملكة العربية السعودية حيث تتوفر في المملكة جميع المقومات اللازمة للصناعة من رأس المال والطاقة، والأسواق، والمواد الخام الأولية، وتقدم اليوم السعودية الدعم الرسمي لقطاع الصناعة، وتوفير الحوافز التي تشجّع على النهوض بهذا القطاع، إذ إنه طُرح من خلال رؤية 2030م، استراتيجية للنهوض بالاقتصاد وعدم الاعتماد على النفط كعامل اقتصادي وحيد للبلد. وتبذل المملكة اليوم قُصار جهدها في تمكين اليد العاملة السعودية، حيث وفّرت الحوافز المادية للقطاع الخاص الذي يعمل في مجال الصناعة من خلال توفير القروض بدون فوائد والتسديد على فتراتٍ طويلةٍ، وأنشأت العديد من المدن الصناعية وتم تجهيزها بكافة المستلزمات اللازمة للصناعة من كهرباءٍ، ومياهٍ، وأبنيةٍ وتأجيرها لأصحاب المشروعات الصناعية بأجورٍ رمزيةٍ، وتبذلُ اليوم الجهود لتوطين الصناعات العسكرية المهمة في البلد. ويأتي ضمن جهود القيادة، انعقاد معرض القوات المسلحة لدعم التصنيع المحلي أفد 2018م للمرة الرابعة في تاريخه حيثُ بدأت سلسلة انعقاده منذ عام 2010م. وأتى معرض أفد 2018م مختلفاً عما سبقه حيث شمل جميع القطاعات العسكرية (وزارة الدفاع، وزارة الحرس الوطني، وزارة الداخلية، رئاسة أمن الدولة، رئاسة الحرس الملكي، المؤسسة العامة للصناعات العسكرية) وكذلك شركة أرامكو وشركة سابك والمؤسسة العامة لتحلية المياه المالحة والشركة السعودية للكهرباء وشركة معادن، حيث عرضت الجهات المشاركة حوالي (80.000) فرصة استثمارية لتصنيع المواد وقطع الغيار التي تحتاجها الجهات المستفيدة أمام رجال الأعمال والشركات والمؤسسات والمصانع الوطنية، كما شارك بالمعرض الشركة السعودية للصناعات العسكرية والعديد من الجهات الحكومية والمصانع الوطنية وشركات التوازن الاقتصادي والهيئات والصناديق الاستثمارية المملوكة للدولة والجامعات والمراكز البحثية ومدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية والعديد من الشركات العالمية التي لها عقود مبرمة مع وزارة الدفاع. هذا شطر مما تقدمه اليوم القيادة السعودية لشعبها، مقارنة بالشعب الألماني الذي مر بظروف قاسية قد لا يتصورها أي انسان، ولستُ هنا أتحدث عن المآسي فالتاريخ يتحدث لمن أراد أن يتعلم وينهض من جديد، ولستُ ساردة للتاريخ حتى أُحيي الأمل بطريقة ساذجة، بل لأقارن بين المقومات الصناعية المتوفرة في البلدين، فأجد الألمان يفتقرون العديد من المقومات التي نحن اليوم نمتلكها، فلماذا هذا التقدم الألماني، أو حتى الياباني أو الصيني.. علينا اليوم! لا شئ ينقُص السعودي عن غيره من سُكّان الأرض! كل ما يحتاجه هو مزيد من الثقة بالذات، والروح المعنوية العالية، فقد أثبت الشباب السعودي أنهم على قدر عال من الذكاء والابتكار والتفوق في شتى ميادين العلوم على المستوى العالمي، ويمتلك الشعب السعودي بصفته عاش ببيئة صحراوية «روح الصبر والمثابرة» لكن لم توظّف هذهِ الروح تحت أروقة الصناعة، فهناك كفاءات وقدرات يمتلكها الشاب السعودي لم ترَ النور بعد! لذلك لن نُحقق النجاحات الاقتصادية العالمية ما لم نؤمن بكفاءات ما تُصدِّره المصانع المحلية من منتجات ذات جودة عالية تُضاهي المنتج العالمي، فنحن من نمتلك المواد الخام الأصلية ونمتلك مصانع وخبرات متراكمة تحتاج منا تعزيز الثقة فقط لا أكثر! لا أُطالبك أيُّها السعودي أن تكُون ألمانياً، كُن أنت في فضاء عالم الاقتصاد، فإن كُنت أنت بنسختك الأصلية وتفرّدت بذكائك وابتكارك سوف تدخل التاريخ الاقتصادي كمُنتج من أوسع أبوابه. الإخوة داسلر.. قصة نجاح في غمار الحرب مرسيدس وبي إم دبليو أنموذج الصناعة الألمانية Your browser does not support the video tag.