عندما نتحدث عن ثروة مجتمع فإننا لا نتحدث عن ثروتها الاقتصادية أو الصناعية أو حتى قوتها العسكرية، بل نتحدث عن ثروتها الفكرية والثقافية (مع وجود شرط شبكة العلاقات الاجتماعية) لأن هذه الثروة هي أساس كل الثروات التي ستصاحب هذا المجتمع، ولنثبت تلك القاعدة سنأخذ ألمانيا كمثال. ألمانيا عاصرت أكبر حروب التاريخ على الإطلاق الحرب العالمية الأولى والثانية حيث حاربت في الأولى بمساعدة الإمبراطورية العثمانية ضد روسيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا وأميركا لاحقاً، ثم لاقت على إثرها عقوبات جنيف القسرية ضدها على الرغم من أنها لم تكن من بدأ الحرب. وحاربت في الثانية ضد الحلفاء حينما قاموا بأكبر عملية إنزال بحري في تاريخ البشرية على شواطئ النورماندي بمشاركة مليوني جندي و300 ألف مركبة عسكرية ضد ألمانيا. ورغم تلك الظروف من حروب وعقوبات دولية نرى الآن ألمانيا وقد علا كعبها على باقي الأمم، واليوم تعد أكبر قوة صناعية في أوروبا والقاطرة الاقتصادية للقارة العجوز وثالث أكبر مصدر للسلع والخدمات في العالم وذلك لثروتها الفكرية والثقافية، بينما نرى الإمبراطورية العثمانية وقد أزيلت من على وجه الخريطة. ولكي نفهم ماهية هذه الثروة وكيفية تأثيرها على الثروات الاقتصادية والصناعية لنأخذ حادثة حصلت لامرأة ألمانية في فيلم وثائقي بثته "بي بي سي" حيث شرحت صدمتها من ثقافة العمل في بريطانيا حين ذهبت هناك في إطار برنامج تبادل قائلة: عندما ذهبت إلى إنجلترا كان الموظفون يتحدثون طوال الوقت في المكتب عن الأشياء الخاصة بهم ويقضون جزءًا كبيراً من وقتهم بين إعداد القهوة وشربها واندهشوا حين علموا أن الفيسبوك غير مسموح به في العمل في ألمانيا وكذلك البريد الإلكتروني الخاص، ففي ثقافة العمل الألمانية عندما يكون الموظف على رأس عمله لا ينبغي له أن يقوم بأي شيء آخر سواه. فتصرفات مثل تصفح الفيسبوك والدردشة مع زملاء العمل والتلاعب بجداول الحضور والانصراف أثناء غياب المديرين، جميعها ليست سلوكيات ممنوعة فقط وإنما غير مقبولة أو مستساغة اجتماعياً ولا يوجد تسامح مع المتورط بها. وكون هذا الإخلاص في العمل جزءاً من ثقافتهم يمكن أن نسميه ثروة اجتماعية يتميز بها الشعب الألماني، ويمكن أن نرى في هذا المثال كيف يمكن لتلك الثروة أن تنعكس على باقي الثروات المادية وقدرتها على تعويضها حتى في أقسى الظروف فهي كالجذور للشجرة، فالشجرة ستبقى صامدة أمام الرياح والصواعق مادامت جذورها لم تقتلع. Your browser does not support the video tag.