تفقد السينما أهميتها إذا نظرنا إليها بوصفها مادة للتسلية فقط. أفلام أكشن وبوب كورن وساعتان من الضحك أو الإثارة. ليست هذه السينما أبداً. هنالك شق ثقافي لا يجب إغفاله في المادة السينمائية لا تتعلق بالفيلم وحسب، بل أيضاً بالبلد المنتج للفيلم السينمائي ومدى حضوره وتطور مجتمعه ثقافياً وإبداعياً، كون الثقافة والإنتاج الإبداعي هما لغة الاتصال الأسمى مع العالم، والنقيض يعني الانكفاء على الذات والخروج من مسرح الحضارة المعاصرة. قبل عام سجلت الفلبين، هذا البلد الفقير، مفاجأة غير متوقعة، حين فاز المخرج الفلبيني لاف دياز بجائزة "الأسد الذهبي" لأفضل فيلم بمهرجان البندقية السينمائي "دورته الثالثة والسبعين" من خلال فيلم كتبه، بالأبيض والأسود، بعنوان "المرأة التي رحلت". ماذا قدمت السينما لصورة الفلبين في هذا المهرجان العريق وأمام العالم؟، الكثير بالتأكيد، بعد أن "صدّر" هذا البلد ثقافته وإبداعه للعالم، ولم يكتف بتصدير الموز وبعض السلع الاستهلاكية. حتى اليابان، بعد الحرب العالمية الثانية، بدأت تصدير الثقافة، ومن خلال السينما، عندما منح فيلم المخرج أكيرا كوروساوا جائزة "الأسد الذهبي" في مهرجان البندقية السينمائي عام 1951 وكان أول فيلم ياباني يحقق هذا السبق في مهرجانات دولية. ولنتذكر وقتها كيف كانت اليابان، بلداً محطماً وخارجاً بهزيمة وقنبلة نووية واحتلال أجنبي، ومع ذلك يفوز فيلم ياباني بتتويج عالمي كبير، هل ثمة رسالة أبلغ من هذه للعالم؟. لنذهب إلى أمريكا اللاتينية، وتحديداً كولومبيا التي اقترن اسمها في المسرح العالمي بإمبراطور تجارة المخدرات الأكبر في العالم بابلو أوسكوبار، هذا الذي سيطر على تصدير 80% من الإنتاج العالمي للكوكايين، وخاض حرباً شرسة ضد الحكومة الكولومبية آنذاك، وأدخل البلد النامي في دوامة القتل والإرهاب، مستخدماً العنف المسلح لفرض وجهة نظره التي يطالب فيها الحكومة بإلغاء معاهدة تسليم تجار المخدرات إلى الولاياتالمتحدة. كيف كانت صورة كولومبيا في العالم؟. بلد "الكوكيين" والسبب، بابلو أوسكوبار. ولكن ليست هذه كامل الصورة، فقد فاز الروائي وكاتب السيناريو الكولومبي غارسيا ماركيز بجائزة نوبل. وترجمت -صدّرت- أعماله لكل لغات العالم. هذه قوة الثقافة التي يجب أن لا تُضيّع، ونحن في وطننا الذي يشهد نمواً ثقافياً وفنياً بدأ يلفت الأنظار، علينا أن لا نسوّف قوة السينما في تصدير الثقافة المحلية من خلال إنتاج الأفلام، كما فعلت العديد من الدول في آسيا وأفريقيا وفازت بجوائز من كان إلى الأوسكار. لهذا من المؤسف أن نعطي النقاش حول السينما الكثير من الوقت، بدل أن نتحمل مسؤوليتنا الثقافية تجاه وطننا الغني بالمواهب الخلاّقة والعقول الإبداعية، بأن نقوم بصناعة أفلام تعكس المستوى الثقافي والإبداعي الذي بلغناه، أفلام من النوع المستلهم من الحياة السعودية، وليست تلك الأفلام "الاستشراقية" التي تتاجر بالتناقضات المحلية، لتحصل على بطاقة دخول "رخيصة" في هذا المهرجان أو ذاك. من هنا، لابد من الإشادة بمجمل مشهد الأفلام القصيرة بالمملكة والتي فاز العديد منها بجوائز عالمية وكانت تعبيراً مخلصاً عن المستوى الثقافي لأبناء وبنات هذا البلد، وهم لا يزالون يطمحون إلى فعل المزيد، من خلال تبني المشروع السينمائي الوطني، بوصفه منتجاً مرئياً، يصلح لتصدير الصورة الثقافية والإبداعية للعالم. لكن هذا لا يعني أن قوة السينما فقط في قدرتها على تصدير الثقافة بفعالية للآخر. للسينما أيضاً قدرة، على إعادة صياغة وعي المجتمع نفسه، والمساهمة في رفع ذائقته الجمالية وتوسيع أفقه الثقافي. غير أن ما يعنينا هنا، هو استثمار الحاضر من أجل ذلك المستقبل الذي نطمح إليه، والذي يكون فيه حضورنا الثقافي لا يقل جلالاً عن حضورنا في التاريخ. أكيرا كوروساوا غابريل غارسيا ماركيز