جمعية "تطوير" تحتفي باختتام النسخة الثانية من "مسرعة وتير"    شبكة القطيف الصحية تطلق مبادرة "توازن وعطاء" لتعزيز الصحة النفسية في بيئة العمل    تطبيق نظام التأمينات الاجتماعية على اللاعبين والمدربين السعوديين (إلزاميًا)    "التجارة": ضبط عمالة مخالفة تُعبئ أرز منتهي الصلاحية في أكياس لعلامات تجارية شهيرة بتواريخ جديدة    البدء بتطبيق نظام التأمينات الاجتماعية على اللاعبين والمدربين السعوديين ابتداءً من 1 يوليو    البرلمان العربي: وفد رفيع المستوى يتوجه في زيارة لمعبر رفح غدا    لجان البرلمان العربي الدائمة تختتم اجتماعاتها    بدء أعمال صيانة ورفع كفاءة نفق طريق الملك فهد مع تقاطع الأمير فيصل بن فهد بالخبر    وزارة الرياضة تعلن توقيع عقود تنفيذ فندقين في مدينة الملك عبدالله الرياضية بجدة    الأمير تركي الفيصل : عام جديد    تدخل طبي عاجل ينقذ حياة سبعيني بمستشفى الرس العام    القيادة تهنئ رئيس جمهورية مدغشقر بذكرى استقلال بلاده    القبض على 3 مخالفين لنظام أمن الحدود ظهروا بمحتوى مرئي في صبيا    النفط يرتفع مع انخفاض مخزونات الخام الأمريكية، وتعزيزات قوة الطلب    رونالدو يقترب من تجديد تعاقده مع النصر السعودي    محافظ صبيا يرأس اجتماع المجلس المحلي، ويناقش تحسين الخدمات والمشاريع التنموية    مفوض الإفتاء بمنطقة جازان يشارك في افتتاح المؤتمر العلمي الثاني    مونتيري المكسيكي يفوز على أوراوا الياباني برباعية ويصعد لدور ال16 بكأس العالم للأندية    الخط العربي بأسلوب الثلث يزدان على كسوة الكعبة المشرفة    ترامب يحث الكونغرس على "قتل" إذاعة (صوت أمريكا)    لوحات تستلهم جمال الطبيعة الصينية لفنان صيني بمعرض بالرياض واميرات سعوديات يثنين    مجلس الشورى" يطالب "السعودية" بخفض تذاكر كبار السن والجنود المرابطين    الذكاء الاصطناعي.. نعمة عصرية أم لعنة كامنة؟    روسيا تسقط 50 طائرة مسيرة أوكرانية خلال الليل    "الغذاء " تعلق تعيين جهة تقويم مطابقة لعدم التزامها بالأنظمة    في جولة الحسم الأخيرة بدور المجموعات لمونديال الأندية.. الهلال يسعى للتأهل أمام باتشوكا    في ربع نهائي الكأس الذهبية.. الأخضر يواصل تحضيراته لمواجهة نظيره المكسيكي    الخارجية الإيرانية: منشآتنا النووية تعرضت لأضرار جسيمة    تصاعد المعارك بين الجيش و«الدعم».. السودان.. مناطق إستراتيجية تتحول لبؤر اشتباك    أسرة الزواوي تستقبل التعازي في فقيدتهم مريم    بحضور مسؤولين وقناصل.. آل عيد وآل الشاعر يحتفلون بعقد قران سلمان    طقس حار و غبار على معظم مناطق المملكة    الجوازات: جاهزية تامة لاستقبال المعتمرين    غروسي: عودة المفتشين لمنشآت إيران النووية ضرورية    حامد مطاوع..رئيس تحرير الندوة في عصرها الذهبي..    تخريج أول دفعة من "برنامج التصحيح اللغوي"    10.9 مليار ريال مشتريات أسبوع    وزير الداخلية يعزي الشريف في وفاة والدته    سلمان بن سلطان يرعى حفل تخرّج طلاب وطالبات البرامج الصحية بتجمع المدينة المنورة الصحي    عسير.. وجهة سياحة أولى للسعوديين والمقيمين    استشاري: المورينجا لا تعالج الضغط ولا الكوليسترول    "التخصصات الصحية": إعلان نتائج برامج البورد السعودي    مؤتمر صحفي يكشف ملامح نسخة تحدي البقاء لأيتام المملكة    «الظبي الجفول».. رمز الصحراء وملهم الشعراء    الإبداع السعودي يتجلى في «سيلفريدجز» بلندن    جبر الخواطر.. عطاءٌ خفيّ وأثرٌ لا يُنسى    صيف المملكة 2025.. نهضة ثقافية في كل زاوية    رخصة القيادة وأهميتها    صوت الحكمة    مرور العام    دورتموند يكسب أولسان ويتصدر مجموعته بمونديال الأندية    نائب أمير منطقة مكة يستقبل القنصل البريطاني    أمير تبوك يستقبل مدير فرع وزارة الصحة بالمنطقة والمدير التنفيذي لهيئة الصحة العامة بالقطاع الشمالي    من أعلام جازان.. الشيخ الدكتور علي بن محمد عطيف    أقوى كاميرا تكتشف الكون    الجوز.. حبة واحدة تحمي قلبك    الهيئة الملكية تطلق حملة "مكة إرث حي" لإبراز القيمة الحضارية والتاريخية للعاصمة المقدسة    الرواشين.. ملامح من الإرث المدني وفن العمارة السعودية الأصيلة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كتلٌ بشرية تستهويها وتتحكَّم بها الأوهام
نشر في الرياض يوم 28 - 08 - 2016

إن التخصص الحقيقي للإنسان هو مجال اهتمامه التلقائي القوي المستغرق وليس المجال الذي اضطر اضطراراً لدراسته، فالعقل قدرة حيادية يحركها الاهتمام النابع من أعماق الذات، فإلحاح الأفكار الإبداعية يكون ضاغطاً بقوة فلا فكاك منه إلا بالاستجابة لإلحاحه والاستغراق فيه..
إن الرواد والمبدعين الذين كانت أفكارهم الخارقة الملهمة خلف كل التطورات الحضارية هم عدَدٌ محدود جدا، إنهم منذ بدء التاريخ يمكن إحصاؤهم بأسمائهم واحدًا واحدا بخلاف مليارات الناس الذين مرُّوا على هذه الأرض من غير أن يتركوا أثرا نافعًا، إن الرواد جميعا منذ بداية التاريخ البشري أقل من عدد سكان قرية صغيرة بل أقل من ركاب طائرة أو قطار، ولكننا نتحدث عن الحضارة الإنسانية وكأن كل الناس كانوا على مستوى الأفكار الريادية الخارقة التي أدت إلى هذا التطور المذهل، وهذا الوهم قد أسهم في استمرار الجهل المركب المتوارث. إن الجنس البشري بأكمله بحاجة إلى صدمة مزلزلة توقظه من هذا السبات لكي ترتقي الإنسانية إلى المستوى الرفيع الذي تتيحه القابليات الإنسانية العظيمة التي بقيت غافية يتحكم بها التاريخ وتستحوذ عليها البرمجات الثقافية التلقائية فانحصرت التطورات المذهلة في الوسائل فصارت البشرية تملك وسائل مدهشة ولكنها تدار بعقليات متحجرة وعاجزة ومرتكبة وعواطف عمياء متناقضة..
إن الوضع البشري البائس في كل بقاع الأرض يستوجب وقفةً عالمية أمام المعضلات البشرية الثقيلة المزمنة، فالتاريخ بكل بشاعاته وحروبه وحماقاته وأحقاده والثقافات بكل ما فيها من جهالات مركبة وتناقضات حادة مازالت تهيمن على العقل البشري هيمنة كاملة، أما العلوم والتقنيات فقد صارت مجرد وسائل لتمكين الحمق وتوطيد البشاعة وتأكيد الجهالات، فالأوضاع البشرية التعيسة تؤكد الفشل الإنساني المطلق في المجال الفكري والأخلاقي حيث تفتقر البشرية إلى الحكمة افتقارًا فاضحًا ولكن الناس ينبهرون بالتطور الهائل في الوسائل فيخدعهم ذلك ويتوهمون بأن الإنسانية قد حققت تقدماً عظيماً مع أنها ما زالت في الحضيض من الناحية الفكرية والأخلاقية كما أننا ننخدع بكثرة المتعلمين ونجهل بأن التعليم هو أيضا من جملة الوسائل التي تخدم استمرار الواقع فهو يكرس الحماقات التاريخية ويمجد الجهالات الثقافية..
تُخَرِّج الجامعاتُ في كل العالم كلَّ عام ملايين المتخصصين في مجالات كثيرة وشديدة التنوع في الطب بمختلف تخصصاته وفي الهندسة بمختلف مجالاتها وفي القانون والمحاسبة والاقتصاد والاجتماع واللغة والأدب والفنون بمختلف المجالات وتتنوع التخصصات حسب متطلبات الأعمال المختلفة ويبقى هَمُّ كل متخرج أن يجد عملا يناسبه وأن ينجح في المهنة التي تخصص بها ويظل هذا هو أقصى ما يطمح إليه المتخرجون لأنهم بعد كل المراحل الدراسية المتعاقبة والسنوات الطويلة المملة التي أمضوها محشورين في الصفوف التعليمية يأتي أكثرهم إلى مواقع العمل بدون مهارات عملية..
إن اكتساب المهارات المهنية لا يتم أثناء التعليم باستثناء الطب الذي يمثل الجانب العملي والتدريبي فيه أهمية استثنائية أما بقية المجالات فيتم اكتساب المهارة المهنية من الممارسة بعد الالتحاق بالعمل، أما المعلومات التي اضطروا لحفظها خلال السنوات الدراسية الطويلة فلا يكادون يتذكرون منها شيئًا وحتى لو تذكروا البعض فإنه يوجد فرقٌ نوعي بين المعارف النظرية والممارسات العملية ومع وضوح هذه النتائج فإن العالم مازال يواصل التعليم بنفس الطريقة العقيمة التي لا تهيئ الخريجين حتى للعمل المهني الذي واصلوا الدراسة من أجله..
أما أن يصير الخريجون من رواد العلم مثل جاليليو أو نيوتن أو من قادة الفكر مثل سقراط وديكارت أو من أهل الاكتشافات الفارقة مثل فراداي وكولومبس أو من رواد المشاريع الكبرى مثل أديسون وفورد فهذا لا يكون ضمن آمالهم فأقصى ما يحلمون به هو الاستقرار الوظيفي باستثناء أفراد قلائل تُمَكِّنهم اهتماماتهم التلقائية القوية المستغرقة ومواهبهم الاستثنائية الفارقة أن يصيروا روادا أو مبدعين أو متميزين في مجالات تستحوذ على اهتمامهم وتستغرق تفكيرهم وتشغل أذهانهم حيث يتدفق النشاط تلقائياً..
إن التخصص الحقيقي للإنسان هو مجال اهتمامه التلقائي القوي المستغرق وليس المجال الذي اضطر اضطراراً لدراسته، فالعقل قدرة حيادية يحركها الاهتمام النابع من أعماق الذات فإلحاح الأفكار الإبداعية يكون ضاغطاً بقوة فلا فكاك منه إلا بالاستجابة لإلحاحه والاستغراق فيه، وتكون مجالات التميز في الغالب مغايرة للمجالات التي تخصصوا فيها فالريادة والقيادة والكشف الخارق والإبداع المؤثِّر ليس تخصصا وإنما هو إنجاز فرديٌّ غير مخطَّطٍ له بل لا يمكن التخطيط له فهو إشراقٌ فرديٌّ استثنائيٌّ خارق، إنه انبثاقٌ من أعماق الذات ونستعرض هنا بعض النماذج الإبداعية وكلهم من الأطباء الذين تركوا مهنة الطب لأن طموحاتهم وقدراتهم أعلى وأكبر من أن يستغرقها عملٌ مهني محدود النطاق وقد أبدعوا في مجالات شديدة التنوع في العلم والسياسة والفكر والأدب والشعر والفن الروائي وغيرها من مجالات الإبداع ٍولست بهذه الاشارات السريعة أريد التعريف بهم فأكثرهم صدرت عنهم دراسات متنوعة وكتب ضخمة لكني أذكرهم هنا كشهود ونماذج على عقم التعلُّم اضطرارًا وخصوبة التعلُّم اندفاعً..
فحين تقرأ في الأدب أو في علم النفس أو في التحليل النفسي أو في العلوم الاجتماعية أو تقرأ عن العقل الجمعي أو في علم الأساطير أو ما شئت من مجالات الفكر فسوف تجد أمامك ذلك العقل الخلاق كارل جوستاف يونج فهو كاتب ومن أشهر علماء النفس وهو في الأصل طبيب لكن اهتماماته التلقائية العميقة جعلته عميق الفكر غزير الإنتاج واسع التأثير لا يكاد يغيب عن أي مجال وحين تُعَرِّف به الموسوعات لا تقول عنه بأنه طبيب بل تقول : (عالم نفس وفيلسوف ومؤسس علم النفس التحليلي إلخ). ومن الواضح أنه قد أدرك أن الإنسان كائنٌ تلقائي فهو ينسب كل فاعلياته إلى دوافع داخلية ذات استجابة آلية وعلى سبيل المثال هو يَعتبِر أن الآلام هي التي توقظ الوعي، إن يقظة الوعي ليست تلقائية وإنما تصنعه الآلام فيقول: (ليس هناك تقدم نحو الوعي من دون ألم. والناس سيفعلون أي شيء، مهما كان سخيفا لتجنُّب مواجهة روحهم. المرء لا يصبح مستنيرًا عبْر تخيُّل أشكال الضوء ، بل عبر جَعْل الظلمة وعيًا) ويقول : (كل شيء يثير غضبنا حيال الآخرين يمكنه أن يقودنا إلى فهمٍ أفضل لأنفسنا) ويقول: (حرية الإرادة هي القدرة على أن أفعل بفرح ما عليَّ أن أفعله) ويقول: (مهمة الإنسان هي أن يصبح واعيًا للمحتويات التي تضغط تصاعديا من اللاوعي) ويقول: (الفن دافع داخلي يقبض على ناصية الإنسان ويجعل منه آلته) ويقول: (من ينبوع الفطرة المفعم بالحياة ينبع كل ما هو إبداعي) إن نصوصه وأفكاره ورؤيته للطبيعة البشرية وتعويله الشديد على الوجدان والطاقات ذات الاستجابة التلقائية كلها تشير بوضوح إلى أنه يعتبر أن الإنسان كائنٌ تلقائيٌّ..
يأتي اسم الطبيب المبدع الفيلسوف الألماني فردريك شيلر ليس ضمن تاريخ الطب الذي تخصص فيه دراسيا وإنما يأتي اسمه مقرونا باسم جوته وغيره من عمالقة الفكر والإبداع، وحين زار الفيلسوف الأمريكي وليم جيمس أوربا اعتبر أن من أهم مكاسبه أنه قرأ شيلر وجوته ويقول: (لقد تمكنت من قراءة شيلر وجوته، إن امتلاك شعب من الشعوب لحياة مثل ذينك الرجلين ومؤلفاتهما يعطيه ميزة على الأمم). هكذا يُعَدُّ شيلر مفخرة لألمانيا ليس بدراسته للطب بل بتخليه عن هذه المهنة والهروب من الرتابة المهنية إلى جيشان الإبداع في مجالات إبداعية متنوعة، إن شيلر يرى أن التعليم المقنن:(لم يكوِّن بعد رجلا عظيما بينما الحرية كوَّنت عمالقة وكائنات خارقة )ويقول: (الحرية هي جوهر الإنسانية في الإنسان) كما يرى أن تغيير الأوضاع البشرية مرهون بتغيير طباع البشر فيقول: (فدولة العقل لا تغدو ممكنة إلا عندما يتم تغيير طباع البشر) إن التعليم الجمعي ليس لتخريج المبدعين بل لتخريج المهنيين من الممرض إلى الأستاذ الجامعي..
إن سيجموند فرويد تخرَّج طبيبًا ولكنه لم يقنع بعمل مهني رتيب كما هو شأن غيره فمن البديهي أن زملاءه قد تفرقوا بعد تخرجهم وابتلعهم العمل المهني وطواهم الزمن من دون أن يتركوا أثرًا باقيا، أما هو فامتد تأثيره إلى كل مجالات الفكر والأدب والعلم والعمل والسياسة والثقافة والحضارة وكما قال عن نفسه: (تشكل اكتشافاتي أساسا لفلسفة جدية تماما لكن القليلين فهموا هذا كما أن القليلين قادرون على فهم هذا) لذلك فإن الدكتور مايكل هارت في كتابه (المئة الأوائل) قد جعل فرويد في المرتبة (32) من بين المئة الأوائل الذين كان لهم التأثير الأكبر في التاريخ البشري..
يتكرر اسم الطبيب فرانز فانون تكرارًا لا ينقطع ليس لإنتاجه في مجال الطب ولكن لأنه صاحب فكر وصاحب موقف ورجل نضال، ففي منتصف القرن العشرين أو بعده بسنوات تخلى عن الجنسية الفرنسية وهَجَر مهنة الطب وانخرط في الكفاح مع جبهة التحرير الجزائرية وألف العديد من الكتب يأتي في مقدمتها كتابه (معذبو الأرض) وقد صارت كتبه مرجعًا للثوار ومازالت مرجعًا للدارسين والباحثين، لكنني هنا أكتفي بما كتبه الناقد الدكتور فيصل دراج في تقديمه لكتاب مارشال بيرمان( كل ما هو صلب يتحول إلى أثير) يقول درَّاج : (لقد هَجَس فرانز فانون بحداثةٍ أخرى أي بمشروع ثقافي تحرري مختلف لأنه وعى تباين الأزمنة التاريخية وأدرك أن نعمة المركز لا تَحمل إلى سهول الأطراف إلا مطرًا مسمومًا) ويقول دراج :( يهجس فانون بحداثةٍ أخرى تحتفظ بالإيجابي الأوربي وهو كثير وتضيف إليه منظورًا أخلاقيا وقيميًّا وجماليا يحفظ للإنسان وحدته ويرى في تاريخ الإبداع التحرري تاريخا موحدا) ومع أن موقف فانون كان مناسبا في وقته بعد منتصف القرن العشرين حين كانت الجزائر وغيرها تكافح للتحرر من الاستعمار لكن رؤيته قد أسيء تفسيرها فاستمر الرفض للغرب ولحضارته اعتمادًا على أفكار فانون بخلاف الموقف الحكيم الذي وقفه نهرو فقد اعترف بأهمية الاستفادة من أفكار الغرب في كل المجالات، فالتحرر من الاستعمار لا يعني البقاء في مهاد التخلف فحضارة العصر هي حضارة الغرب فالواجب رفْض هيمنته مع الأخذ إلى الحد الأقصى بالمقومات التي مكَّنته..
المبدع الروسي أنطون تشيكوف لم يعرفه العالم ولم يقرأ الناس في مختلف اللغات إنتاجه في الطب الذي تخصص فيه دراسيًّا ولكن العالم عرفه بوصفه رائد القصة القصيرة وأميرها في العالم إنه لم يكن مبدعًا فقط ولكنه اتخذ من الإبداع وسيلة للتنوير فهو يقول: (أكتب لأبين للناس كم هي سيئة ومملة حياتهم.. وعندما يدركون ذلك سوف يسعون حتمًا لتغييرها ولكن لن أكون شاهدًا على ذلك التغيير) إن هذا الرائد المبدع يكشف للناس نقائصهم ويدعوهم إلى التحرر منها لكنه يعرف أن البشرية تتمسك بنقائصها ولا تتخلى عنها إلا بتغيير طبيعتها وهو التغيير الذي تحول دونه آلاف العوائق النفسية والمادية، إن تشيكوف كان يدرك عظمة القابليات الإنسانية وقد جاهد من أجل أن يرتفع الإنسان في كل مكان إلى المستوى العظيم الذي تؤهله له قابلياته فهو يقول: (إن أقدس القديسين بالنسبة إلي هو الكائن البشري: الصحة، الذكاء، الموهبة، الحرية المطلقة، تحرير الإنسان بأية طريقة من كل قوة وحشية ومن كل كذبة.. حرية تعبِّر عن نفسها: هكذا برنامجي) هكذا هم المبدعون يحلِّقون في الآفاق فلا تحدُّهم مهنةٌ ولا يحتبسون في تخصص وإنما تشغلهم اهتمامات متنوعة وعميقة وذات أبعاد إنسانية واسعة، إن اهتمامهم ليس أنانيا بل انشغالٌ بقضايا الإنسان الوجودية الكبرى..
وتتنوع مجالات التميُّز فرغم أن الولايات المتحدة الأمريكية ربما هي أكثر البلدان وفرةً في المؤهلين للأعمال الاقتصادية والمالية والتجارية والإدارية إلا أنها اختارت لرئاسة البنك الدولي الطبيب جيم كيم لقناعتها بأهليته لقيادة هذه المؤسسة المالية العالمية ووافق العالم على هذا الاختيار فاهتمامات الفرد العميقة هي تخصصه الحقيقي وليس ما يحمل فيه شهادة أكاديمية في مجالٍ قد يكون اتجه إليه دون ميل حقيقي، فالإنسان لا يبدع إلا في المجال الذي يهواه بل يستحوذ على اهتمامه فتستجيب له كل طاقاته..
يعرف المهتمون في الأدب بأن الطبيب الفرنسي سانت بيف قد هَجَرَ مهنة الطب التي تخصص فيها وركز طاقته في مجال شغفه ومحور اهتمامه وهو مجال الأدب فصار من أشهر النقاد وتعيَّن أستاذًا جامعيًّا للأدب وليس للطب وهو مشهور إلى درجة أن أي تفصيل عنه يكون من المعلومات المعادة المبتذلة فحين يجري الحديث عن أبرز النقاد على امتداد التاريخ يأتي اسم سانت بيف من بين البارزين من رواد النقد، يقول عنه البرت تيبوديه في كتابه (النقد الكلاسيكي): (إن نفسية النقد الحقيقية الحية الوحيدة هي سيرة نفسية رجل عاش مأساة وملهاة مهنة النقد في مفترقات طرقها الفريدة إنه سانت بيف) ويتناول إسهامه الناقد المعروف جورج لوكاش في كتابه (الرواية التاريخية) ويصفه بأنه ناقد العصر الشهير وبأنه كاتبٌ عميق ذو شأن مهم..
ومن الأطباء الذين أبدعوا في مجالات أدببية عديدة ومتنوعة الطبيب الأديب وليم سومرست موم، فهو قاص وروائي وناقد وكاتب مقالات وكاتب مسرحي يصفه جعفر صادق الخليلي بأنه: (الكاتب العالمي الذي أُلّفَت عنه الكتب المطولة والمقالات العديدة وأُلقيت عنه المحاضرات في أنحاء العالم وتُرجم أكثر إنتاجه إلى لغات شتى ومُثِّلَت مسرحياته في عدد من أقطار أوربا حتى إنه هو وبرناردشو ظلا مسيطرَين على لندن زمنًا طويلا لا تُمثَّل مسرحية لغيرهما على مسارحها وحتى إن مجلة (بنج) الشهيرة رسمت في أحد أعدادها صورةً كاريكاتيرية تمثِّل شكسبير يعض أصبعه حسدًا وهو يتأمل إعلانًا عن أربع مسرحيات لسومرست موم تُمَثَّل في أربعة مسارح في لندن في وقت واحد) هكذا الإنسان يبدع في مجالات عديدة ومتنوعة مادامت كلها تنال اهتمامه وتستحوذ على وجدانه فستفرغ فيها طاقته فتدفُّق الطاقة الانتاجية والإبداعية مفتاحه قوة الاهتمام التلقائي..
طبيبٌ صيني نشأ في أسرة فقيرة لكنه كان يتمزق ألَمًا أن تبقى الصين ذليلة وعاجزة عن أن تدافع عن نفسها بكل ثقلها السكاني الكثيف الفريد وتاريخها الحضاري المجيد المديد لذلك سعى إلى تحريرها من نفسها، أوَّلا فالعائق الثقافي هو أفظع العوائق وأقواها فكان همه تحريرها من هذا العائق لتنطلق كغيرها من الأمم وقد نجح في مسعاه بعد كفاح مرير، لذلك لم يكن غريباً أن يؤكد الفيلسوف الكبير برتراند راسل بأن الطبيب الصيني صن يات صن هو وأديسون ولينين قد حددوا طابع الثلث الأول من القرن العشرين، فانتشال الصين من أغلال التاريخ التي كانت تكبلها ومكَّنت جارتها اليابان أن تغزوها وأن تفرض عليها ما تريد كان عملاً عظيما لقد أمضه إذلال الصين فراح يستنهضها لتخرج من أوهام الكمال والاكتفاء وتتحرك خاج النطاق الذي حبست نفسها فيه وهكذا كان..
هذه نماذج من الأطباء الذين أبدعوا في مجالات متنوعة مغايرة تماما لمهنة الطب..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.