كثير من المتخصصين ينسبون الخلل في السلوكيات المعاصرة إلى فشل المنظومة الحضرية داخل المدن المعاصرة وليس فشل تصميم الفضاءات العمرانية لأن التجارب أثبتت أنه ليس كل مكان جميل ناجح بالمفهوم السلوكي والأخلاقي الإنساني، وبالتالي يمكن القول أن هناك "أزمة" حول مفهوم "المدينة السعيدة" يثيره كتاب جديد (نشر عام 2014) كتبه صحفي متخصص في المجال العمراني أسمه "شارلز مونتغمري" بعنوان "المدينة السعيدة: تحول حياتنا من خلال التصميم الحضري". الجميل في الكتاب أنه يسرد حكايات التحول الذي حدثت في بعض المدن المعاصرة المتأزمة وكيف أصبحت مدناً سعيدة في حين أنها كانت وكراً للجريمة ومركزاً للفساد الأخلاقي. في أول فصل يتحدث الكاتب عن "عمدة السعادة" ويقصد رئيس بلدية العاصمة الكولومبية "بوجوتا" الذي وعد سكان مدينته بأن يجعلها مدينة سعيدة عندما أصبح عمدة لها عام 1997م، لأنه تيقن أنه لن يستطيع أن يجعل كل فرد فيها ثرياً لذلك قال "لو جعلنا الثراء معياراً لسعادة المدينة فسنكون درجة ثانية أو ثالثة". هناك معايير إنسانية للمكان وللمدينة أهم بكثير من المعايير التصميمية والتخطيطة المباشرة وأكثر تأثيراً منها وهي التي تجعل المدينة سعيدة وتحقق مبدأ «المكان الفاضل» والحقيقة أن التحول الأخلاقي التي تعيشه كثير من مدن العالم والمدن العربية على وجه الخصوص وتفشي ظاهرة الإرهاب المديني الذي جعل من المدينة غير آمنة وغير سعيدة يفرض علينا دراسة الظاهرة في عمقها المديني العمراني والإنساني، لأن مشكلة العمرانيين أنهم لا يرون ما هو غير ظاهر ولا يضعون للظاهرة الأخلاقية اعتباراً جاداً أثناء التخطيط للمدينة وهم يركزون على الجانب المادي الملموس وينسون الجوانب غير الظاهرة مع أنها هي التي تجعل من المكان سعيداً وفاضلاً. مصطلح "المدينة السعيدة" غير المتفق عليه أصلا يؤكد أن هناك أزمة حضرية إنسانية بدات تظهر بوضوح في منتصف القرن العشرين الأمر الذي جعل من ظهور تخصص التخطيط العمراني كتخصص منفصل عن العمارة ضرورة ملحة لكن الظاهرة تفاقمت حتى أصبحت أزمة في العقد الأول والثاني من الألفية الثالثة والأمر ينذر بمزيد من التدهور في الأيام القادمة. لكن ما هي "المدينة السعيدة" وكيف يجب أن تتحقق؟ أنا على يقين أن كل منا له مفهومه للسعادة، لذلك تبقي المعايير الإنسانية هي التي تحدد هذا المفهوم، فالمنطق يقول أنه ليس مهما أن يكون المكان سعيدا لكن من الضروري أن يكون الانسان الذي يقطن المكان سعيدا، إذا المسألة مجازية فكيف يمكن للمكان أن يسمح أو يحقق السعادة الانسانية. بالنسبة لعمدة "بوجوتا" فإن المكان البسيط الذي يسمح لنا بالمشي والتواصل مع الناس والذي لا يعزلنا ولا يهمشنا ويحقق العدالة بيننا هو الذي يجعلنا نشعر بالسعادة، لكن البعض مازال يرى أن المكان الذي يصنع فرص العمل ولا يضغط على اعصابنا هو المكان السعيد. وبالطبع بالنسبة للمتخصصين فإن مصطلح "المدينة السعيدة" و"المكان السعيد" هي مصطلحات "روائية" واهمة وحالمة ليس لها أساس علمي، وهذا ما علق به الزميل الدكتور أشرف سلامة على كتاب "مونتغمري" فقد أكد أن هذه المصطلحات الأدبية "تفرغ نظريات التصميم الحضري من محتواها وتجعلها دون أساس" وأنا لا أتفق معه أبدا لأنه لا يوجد في الأصل نظريات متراكمة في التصميم الحضري ومترابطة بل هي أفكار ومحاولات متفرقة يصعب بناء خطي زمني لتطورها. وهو الأمر الذي يجعل من طرح فكرة "يتوبيا المدينة" و"المدينة الفاضلة" متجددة وبأساليب مختلفة لآن المشكلة ليست تصميمية بقدر ما هي أخلاقية وسلوكية. لكن المكان "الفاضل" هو الذي يسمح بنمو الأخلاق الحميدة ولا يمكن أن تتطور أخلاق حميدة في مكان يعزل الناس عن بعضهم ويصنفهم إلى طبقات. لقد صادفت قرائتي لكتاب المدينة السعيدة زيارة لي للعاصمة الأمريكية "واشنطن" وكنت مع مجموعة من الزملاء من جميع اقطار العالم العربي فطلبت منهم مقارنة مدينة واشنطن بالمدن التي يسكنونها، وبدأت قولي بأني أرى واشنطن مدينة سعيدة فسكانها يتصفون بالهدوء وقد جربت أن اعبر ممر المشاة والاشارة حمراء اكثر من مرة لأختبر ردة فعل قائدي السيارات فوجدت أنهم يخففون السرعة من مسافة بعيدة رغم أني مخالف لنظام السير، لاحظت ان الفضاء العمراني وادع والبيوت هادئة والناس تعيش في سلام وود رغم أنهم من أجناس وثقافات متعددة، على عكس مدينة نيويورك التي تضغط على الاعصاب ولو خالفت نظام السير تجد السائق يزمر ليعلمك أنك غير متحضر والناس متجهمون وعجلون يجدون السير في الطرقات ولا يلتفت بعضهم إلى بعض إلا نادرا رغم الازدحام الشديد في ممرات المشاة وفي الطرقات. بعض الزملاء الذين يعملون في واشنطن قالوا لي إن رؤيتي حالمة عن المدينة وأن واشنطن مرهقة من حيث ضغوط العمل فالكل يعمل أكثر من 12 ساعة يوميا والناس اصبحو "روبوتات" لكنهم وافقوني على نسبة الهدوء والاخلاق الرفيعة التي يمتلكها سكان المدينة. وأنا شخصيا توقفت عند العزلة المدينية التي يمكن أن تحدثها بعض المدن حتى لو كانت مزدحمة بالناس وكيف أن المكان السعيد ليس فقط هو الذي يسمح بأن الناس تتقاطع مع بعضها البعض جسديا بل يجب أن يمكن الناس من رؤية بعضهم البعض والشعور بوجودهم لأن نيويورك تتيح للناس الالتقاء لكنهم لا يشعرون ببعض كما في واشنطن. إذا هناك معايير انسانية للمكان وللمدينة أهم بكثير من المعايير التصميمية والتخطيطة المباشرة وأكثر تأثيراً منها وهي التي تجعل المدينة سعيدة وتحقق مبدأ "المكان الفاضل". وعلى ما يبدو أن المصلحات "الأخلاقية" و"الإنسانية" للمدينة جدلية في مضمونها ولا يتفق معها أو لا يحبذها المتخصصون في مجال التصميم الحضري كونها مصطلحات لها معايير لا يمكن قياسها وتقيميها وبالتالي يصعب تطوير أفكار تصميمة تجسدها على ارض الواقع. على ان السؤال المهم هو هل من الضرورة بمكان أن يكون المكان السعيد ناتج عن عمل انساني متعمد، وأقصد هل يجب ان ينتج عن تصميم مفكر فيه مسبقا أو هو مكان عفوي غالبا ما يعبر فيه الناس عن سعادتهم بعفوية، مثل ما عبر عنه "كريستوفر الكساندر" في كتبه "الطريقة الخالدة للبناء" انه "المكان العفوي" الذي "يشعرك بالسعادة دون ان تعرف لماذا، ودون أن تستطيع أن تصفه". بالطبع ما زلت أتكلم عن المكان بطريقة حالمة لكنني مازلت أحلم بالمدينة التي تصنع الأخلاق الفاضلة وتؤدب سكانها بشكل غير مباشر وتجعلهم رحماء ببعضهم البعض. ربما يكون حلما يصعب تصوره من الناحية التخطيطية المتخصصة، لكن يجب أن نتذكر دائماً أن المدن التي نسكنها تضغط على أخلاقنا وأعصابنا وتخرجنا عن آداميتنا خطوة كل يوم نعيشه فيها.