أنت تترقب موعد الاحتفال الكبير، ثلاثة أيام تفصلك عنه، يومان، يوم واحد، ثم ساعات قليلة، تقضيها بمشاهدة قناة E! التي تنقل لك الآن صور نجومك وهم يصلون إلى مقر الاحتفال ويطأون السجادة الحمراء مجللين ببهائهم وسحرهم الخلاب.. أنت تشاهد عبر هذه التغطية لقاءات عدة، أحدها مع جورج كلوني، والآخر مع «فليستي هوفمان» نجمة المسلسل المثير (نساء يائسات) والتي حضرت بصحبة زوجها الفنان «ويليام إتش ميسي». ترى نجماً يحوم هناك، ونجمة تتبختر أمام الكاميرات، هذا يبتسم، وذاك يتحدث، وثالث هادئ وقف ليتأمل حشود المصورين أمامه. أدريان برودي، سكارليت جوهانسون، جوني ديب، ستيفن سبيلبرج، ناتالي بورتمان، ليوناردو ديكابريو، ونجوم آخرون ازدحموا أمامك في وقت واحد وفي عرض واحد ليزيدوا من بهجة ذلك اليوم السعيد. إنه يوم احتفال الغولدن غلوب الذي غدا بالنسبة لك بمثابة العيد يأتي مطلع كل سنة ليمنحك مزيداً من الانتعاش ويجدد رغبتك في متابعة المزيد والمزيد من السينما. أنت تستعد الآن للانتقال إلى مسرح فندق بيفرلي هيلتون لتشاهد من هناك، عبر قناة الحرة، تفاصيل الحفل وتعرف - من ثم - الأبطال المتوجين لعام 2005. لكنك في الحقيقة لا تهتم بمن سيكون الفائز، قدر اهتمامك بمعايشة هذه الأجواء السينمائية المنعشة وبرؤية نجومك المفضلين. إلا أن هناك جائزة واحدة تنتظر الإعلان عن مستحقها بفارغ الصبر.. هي جائزة أفضل فيلم أجنبي التي تضم بين ثنايا مرشحيها فيلماً فلسطينياً جاء ليكون أول فيلم عربي يدخل المسابقة في تاريخها الطويل.. هو فيلم (الجنة الآن).. هذا الفيلم سمعت عنه منذ أن عرض في مهرجان برلين السينمائي، وبدأت بملاحقة أخباره يوم أن أعلن عن بدء عرضه التجاري في صالات السينما الأمريكية، ثم شاهدته في مهرجان دبي السينمائي، ورأيت فيه جودة يستحق من أجلها كل ما قيل فيه.. فالسيناريو كان مصاغاً بطريقة آسرة، مربكة، والصورة كتبت بلغة سينمائية اصيلة، وببلاغة لا توصف، أما النهاية العظيمة، تلك الهادئة، فقد ألبست حضور حفل افتتاح مهرجان دبي لباس الهدوء والسكينة.. وهو ما يعني أن التأثر وصل مداه في داخل كل واحد منهم.. وأن الرسالة قد تغلغت فيهم.. وأن القضية باتت قضيتهم، يفكرون فيها، ويتأملونها بإخلاص.. وهنا تكون السينما سلاحاً خطيراً يغير القناعات ويجبر على إعادة التفكير. وربما يكون أثره أمضى من سلاح المقاومة العنيف. مخرج الفيلم هاني أبو السعد حمل فيلمه الكبير إلى أمريكا ليقاوم من هناك وليكمل مسيرة نضالية أرساها من قبل إدوارد سعيد.. فبدأت صالات السينما بعرض الفيلم وبدأ الجمهور الأمريكي ينهال على تلك الصالات، وهذا بحد ذاته إنجاز كبير.. لكن أبو السعد لا يكتفي بذلك، بل يفلح في اقتحام دائرة مرشحي جائزة الغولدن غلوب، وهو إلى هنا يحقق إنجازاً أكبر لم يستطع الاقتراب منه عتاولة السينما العربية في مصر طوال قرن كامل رغم ما يتمتعون به من إمكانيات كبيرة، أقلّها توفر (الوطن) و(الأرض) التي تسمح بتصوير الأفلام.. وهو العامل الذي حرم منه أبو السعد.. لكن هل يمكن أن تقف في وجه الفنان المبدع مصاعب أو تحديات طالما أنه يمتلك «الهمّ» و«الفكر» و«الإخلاص»؟ أليس الفنان هو من لا يعدم الحيلة ولا الوسيلة، الذي يتحايل على كافة المصاعب، ولا يستسلم للظروف القاهرة، ليصنع تحفاً وروائع مدهشة؟ بلى هو كذلك.. وهذا ما أثبته أبو السعد. بعد هذه الجولة الفكرية السريعة.. أنت تعود إلى أجواء الحفل.. وتنظر إلى الجوائز وهي تنساب إلى مستحقيها.. ثم تنتظر جائزتك المرتقبة.. وتسمع الإعلان الذي انتظرته طويلاً.. إعلان يقول بفوز فيلم (الجنة الآن).. هنا وأنت ترى «هاني» يستلم جائزته تنتابك رجفة من السعادة القاهرة، لا تدري كيف تعبر عن سعادتك.. لكنك فجأة تذهب بعيداً عن الحفل وأجوائه البهيجة لتفكر في الدراما المحلية وفي السينما العربية.. وتسأل: كيف لهاني وهو يعاني من صعوبة الظروف ما يعاني أن يحقق إنجازاً كبيراً كهذا.. ونحن الذين نمتلك المادة والقدرة لم نحقق ولو شيئاً يسيراً مما حقق؟ هل المسألة لها علاقة بالمادة، أم أنها مسألة فكر وثقافة وتصورات ومفاهيم؟ أنت لا تدري.. ولا تهتم لأن تدري.. لأنك غارق في سعادتك بهذا الإنجاز الكبير.