استمرار التوقعات بهطول الأمطار مع انخفاض في درجات الحرارة ب3 مناطق    نائب أمير مكة المكرمة يستقبل منسوبي الإمارة    أمير تبوك يستقبل وزير الحج والمهنئين بالعيد    «البنك الدولي»: %5.9 نمو اقتصاد السعودية في 2025    تحرك مشترك وآليات للتنسيق الخليجي لمواجهة التطورات    الهلال يتحصن من «العين»    تركي آل الشيخ يعلن أسماء أبطال العالم المشاركين في بطولة العالم للملاكمة    وزير الخارجية: تعزيز مصالح «الخليج» وآسيا الوسطى يجعل منطقتنا آمنة ومستقرة ومزدهرة    سعود بن جلوي يستقبل منسوبي محافظة جدة    «رافد» تدعو أولياء الأمور للتسجيل في خدمة النقل المدرسي    ورود وحلويات للعائدين لمدارسهم بعد إجازة العيد    المرور: لا حاجة للتسجيل لخفض قيمة المخالفات 50 %    الموافقة على تشكيل مجلس أمناء جامعة المؤسس    اقتصاد حائل يولد 28 مليار ريال في السياحة والتصنيع    كيف تصبح أكثر تركيزاً وإنتاجية في حياتك ؟    5 أكلات تريح القولون    ثلث النساء يعانين من صداع نصفي أثناء الدورة الشهرية    أمانة جمعية الكشافة تقيم حفل معايدة لمنسوبيها    القوات الجوية تُشارك في التمرين الجوي المختلط «علَم الصحراء» في الإمارات    الحزام    انخفاض قياسي للسلع والخدمات    إغلاق مؤشرات أسواق الأسهم الأمريكية على انخفاض    يتنكر بزي كيس قمامة لسرقة المنازل    «إمكان التعليمية» تواصل دعم طلاب منهج «كامبريدج»    ارتفاع أسعار العقارات السكنية وانخفاض التجارية    شاهد | أهداف مباراة تشيلسي وإيفرتون (6-0)    تعزيز التبادل الثقافي واستلهام التجارب الناجحة.. انطلاق المهرجان السينمائي الخليجي    أحد الفنون الشعبية الأدائية الشهيرة.. «التعشير الحجازي».. عنوان للفرح في الأعياد    الكشف المبكر لسرطان الثدي    ماذا بعد العيد ؟    الأخضر الأولمبي يواجه طاجيكستان في كأس آسيا    «ماسنجر» يتيح إرسال الصور بجودة عالية    السراب وراء غرق «تيتانيك»    مراحل الوعي    البكيرية يتغلب على هجر بهدف في دوري يلو    القيادة تُعزّي سلطان عُمان في ضحايا السيول والأمطار    أكثر من 380 ألف طالب وطالبة بتعليم جازان ينتظمون في 2,659 مدرسة    قوة الاقتصاد السعودي    25.187 ترخيصا للأجهزة السلكية الخاصة    المنطقة الشرقية تستضيف منتدى التكامل اللوجستي    بيع 40 ألف تذكرة "لكلاسيكو" الأهلي والهلال    فيلم «شباب البومب» الأول في السعودية والأردن    الوضع في منطقتنا.. خياران لا ثالث لهما    وزارة الحج والعمرة تكمل استعداداتها لإطلاق النسخة الأولى لمنتدى العمرة والزيارة    13 فكرة من آداب استخدام «الواتساب».. !    تكتيك الحرب عند ترمب !    أزمة نقل ركاب الجوف.. !    الخليج بطلاً لكأس الاتحاد السعودي للطائرة    السلام.. واتس !    جراحة دقيقة تعيد بناء وتصنيع المريءالأولى من نوعها بالقصيم..    وسط أجواء احتفالية.. أكثر من 30 ألف طالب وطالبة ينتظمون في مدارس مكتب تعليم بيش بعد العيد    زعماء العالم لا يؤيدون التصعيد بين إسرائيل وإيران    انطلاق فعاليات مهرجان محمية الملك سلمان بالقريات    أمير نجران: أعزّ الله الدولة وولاة أمرها بالإسلام وخدمته    نائب أمير مكة يستقبل المهنئين    فهد بن سلطان ينوه بدعم القيادة لقطاع الحج والعمرة    فهد بن سلطان يستقبل وكلاء ومنسوبي الإمارة بمناسبة عيد الفطر المبارك    أمير تبوك يواسي أبناء الشيخ علي بن احمد بن رفادة في وفاة والدهم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حنجرة نسائية بين وطن غريب وعاطفة فراق!
وردة وأمي وأنا..:
نشر في الرياض يوم 15 - 12 - 2005

لم تكن وردة - الاختيار المشترك لوالدتي ولي - وحيدة بين كثير من الأمور الجميلة التي كانت في مدينتنا مدينة الرياض، حيث الكثير من الفن والفرح. اللذين كانت على وعد بهما تلك المدينة التي ولدت مرحلة تنميتها - أو الطفرة - نهاية عقد السبعينات الميلادية. هناك سكنا في إحدى الزوايا القريبة من شارع الخزان لحديقة الفوطة وعمائر الملك خالد سور طويل لقصر الحكم يقارب نافذة شقتنا الجميلة التي كنت أملأها وأخي أو أحد مجايلينا من أبناء خالتي الكبرى أو من بنات وأبناء جيراننا.
.. كذلك لم يكن في البيت ما يغيب من أعمال أخرى. إذ تموج لأذني تيارين غنائيين:
1 - الأبوي: شادية وفيروز: نصري شمس الدين ومحمد عبدالوهاب.
2- الأمومي: وردة وعبدالحليم حافظ. طلال مداح.
.. حتى المدرسة الكويتية في ألقها النجدي المضمر: مصطفى أحمد، حسين جاسم وعبدالكريم عبدالقادر حتى عبدالله الرويشد وخالد الشيخ وعارف الزياني.
.. لم تكن حنجرة وقلب وردة اختياراً عارضاً كنت أصغي لها وأنا في رحم أمي كنا نسمعها سوياً، وعندما جئت للدنيا جعلت أقلب في طفولتي حين عبث ولعب بأشرطة والدتي التي كانت تشترى من تسجيلات ذلك الوقت عبر أسماء منها: استيريو ريم، والآخر طلال. ربما لم تعد موجودة الآن.
.. كانت عبارات الأغنيات ذات تجربة مريرة: «ولا يصعب علينا إلا الفراق» (لو سألوك)، وحيناً تتسم بالحكمة: «زي السواقي الزمن لسه داير بينا» و(ماله)، ولا خلو من نغمة الولع بالحياة: «ولولاك ما كان عمري اغتنى/ أنس وهنا ولا دندنة» (دندنة). لكنها ظلت تحمل توقيعاً كبيراً نقرأه: وردة.
.. عندما أعود إلى بدايات الصغيرة وردة، الفتاة من أب جزائري لعائلة فتوكي وأم لبنانية لعائلة يموت، مولودة في حي مونمارت - باريس (1939)، التحقت في مدارسها وعاشت تفتح الطفولة هناك على وجع الغربة وفقد الوطن، فالجزائر تخوض عراكاً مع المستعمر الفرنسي، والأب يدير ملهى: تام تام، ولا يمنعه حسه الوطني أن يعين المجاهدين الجزائريين، ليخبئ أسلحتهم. كان يحضر في الملهى بعض الفنانين الجزائريين المهاجرين: أحمد وهبي وعازف الكمان اسماعيل أحمد.
.. سمع صديق تونسي، هو أحمد التيجاني، صوت الفتاة الجميل ذات العشر السنوات، فأخذها للإذاعة الفرنسية لتعمل في برنامج يعد للأطفال خلال عامين، فتلقت تدريباً فنياً من الفنان التونسي الصادق ثريا الذي علمها لحن رياض السنباطي: «سلوا قلبي»، وأنجز لها أغنية «أمي» التي سوف تقدمها خطوة إلى الأمام فنياً إذ سمع أحمد حشلاف مدير شركة (EMI) صوتها واقترح تسجيل أغنية: «يا ظالمني» لحن رياض السنباطي. وهذا كان نواة العمل الفني الذي سيكون مطالع الستينات بين الملحن السنباطي ووردة إذ سيقدر لها ذلك بأعمال مهمة.
.. لم تدم الحال يسيراً للأسرة، فاكتشاف أمر المجاهدين الجزائريين وأسلحتهم (1955) أدى إلى طرد الحاج محمد فتوكي وعائلته بعد مصادرة الأسلحة وتعذيبه أثناء اعتقاله، فاختار وطن الأم لبنان، لكونه في الجزائر من عداد المطلوبين من السلطات الفرنسية.
.. توفَّر لوردة فرصة الغناء في ملهى طانيوس بمنطقة عالية شرق بيروت، وكانت جعبتها الغنائية ملأى بالأغنيات الثورية التي تعاني الغربة وتداوي جروحها باستنهاض الهمم، وهذا ما لا استسيغ من رواده.
.. سافرت وردة إلى دمشق تلبية لدعوة فنية، فأخذت معها إليهم أغنية حملت اسم المناضلة الجزائرية: «جميلة بوحيرد» كتبها ميشيل طعمة ولحنها عفيف رضوان، وهذا ما لفت لها أنظار الملحنين فقدّم لها الملحن السوري محمد محسن ألحاناً واللبناني فيلمون وهبة أيضاً.
.. كان السفر إلى مصر وعداً لها، فعلى أن فريد الأطرش استمع لصوتها في سنها الصغيرة التي لم تتعد السبعة عشر عاماً، إلا أنه اقترح التريُّث لينضج الصوت.
.. لم يطل وعد مصر لها، فقد توفرت لها فرصة التمثيل والغناء سينمائياً عبر فيلم سينتجه حلمي رفلة، وهذا ما سيقرّبها إلى الورشة الفنية المصرية، فقد استقبلتها باقة ورد من رياض السنباطي في الفندق الذي نزلت فيه، فلحّن لها قصيدة: «الجزائر» وقدم لها محمد الموجي أغنية وطنية أخرى كتبها مواطنها الشاعر صالح الحزقي.
.. هو ذا موعدها مع الشهرة كبير وتحقق في مشاركتها بنشيد: «الوطن الأكبر - 1958» الذي كتبه أحمد شفيق كامل ولحنه محمد عبدالوهاب، وغنته مع فايدة كامل، صباح، شادية، عبدالحليم حافظ ونجاة، فقد وُضع لها مقطع خاص عن الجزائر.
.. اجتمع في فيلم وردة: «المظ وعبده الحمولي - 1962» هذا كبار الملحنين من جيلين: محمد عبدالوهاب وفريد الأطرش ومن اللاحقين: بليغ حمدي وكمال الطويل. عبر أغنيات اشتهرت: «يا نخلتين في العلالي» التي تسجل لبليغ حمدي أولى محاولاته في تأهيل الفلكلور المصري، كما سيحدث فيما بعد مع محمد رشدي وشادية، وأغنية «أسأل دموع عني» لعبدالوهاب. أما أغنية «روحي وروحك» للأطرش، فيما راح لحن الطويل لصالح مقاسمها البطولة المغني ممثلاً عادل مأمون.
.. لم يترك رياض السنباطي وردة دون أغنيات عاطفية كانت أجملهن: «يا لعبة الأيام»، وأغنية من ملحن الإذاعة المصرية عبدالعظيم عبدالحق: «كل أطبا القلب»، وأثناء ما كانت تنجز فيلمها الثاني «أميرة العرب - 1963» ستكون وردة على موعد بالزواج، بعد استقلال الجزائر 1962، من مواطنها العسكري جمال القصري، فرحلت معه إلى البلد الذي أظهر حنجرتها بقضيته عبر موضوعة الغربة والقهر.
.. لم تمض السنوات التسع على وردة سهلة، فهي إن كانت لم تنس أنها ستحقق مشروع الحياة عبر حنجرتها الرائعة، تسلت بموهبة الرسم الي لديها وموهبة الأمومة التي أنجبت لها رياض ووداد.... 1972 كان عاماً لا ينسى في ذاكرة وردة هو عام العودة إلى القاهرة، فكان بليغ حمدي هو الزوج والملحن. عادت وردة مثل أي مغنية كبيرة يشغر المكان لها. هذه أم كلثوم تعاني شيخوختها وليلى مراد لائذة بالصمت منذ زمن، ونور الهدى لم تكن إلا غائبة. سعاد محمد انشغلت بالأمومة والحظ العاثر. شادية وصباح مكرستان في أفلام سينمائية وأغنيات خفيفة. فايزة أحمد تشق طريقها بعنف وتوتر ونجاة بهدوء وثقة فيما عبدالحليم حافظ يقود تحديه الفني الفريد لولا أن المرض سيطفئه باكراً جداً.
.. كانت أغنيات وردة التي توقع باسم بليغ حمدي تشهد على انسجام إنساني وتقارب فني. كانت موسيقاه تجرب بشكل طليق مع وردة سواء في السينما أو المسرح أو التلفزيون. فقد حققت أولى أغنيتين ما كان مطلوباً منهما. تسجل عودة وردة الغنائية في القاهرة، وتأكيد جدارتها بالصف الأول. كانت الأغنيتان: «العيون السود» والثانية: «والله زمان». توالت الأغنيات سواء التي جرّب فيها بليغ أفكاره اللحنية المتطورة من صياغة لحنية جديدة: «لو سألوك» و«خليك هنا» أو في الفيلم الثالث: «صوت الحب - 1973» بأغنية «مالي وأنا مالي» أو أغنية الموجي الرائعة: «مستحيل» التي حققت مفهوم الرومانسية الدرامية في نفس الفيلم كما أن هناك لحنا من منير مراد باسم: «رحّالة».
..عادت وردة الى الغناء الوطني، لكن عن مصر في حروبها بعد العدوان الثلاثي، باغنيات كثيرة كانت أقواها في حرب اكتوبر «ع الربابة».
.. اعادت وردة حساباتها الدرامية وتألقت في فيلمها الرابع: «حكايتي مع الزمان - 1974» حيث اجتمع ملحنون لامعون لوضع أغنيات جميلة: «لولا الملامة» عبدالوهاب: «بكرة يا حبيبي» للطويل، موشح: «يا عيوني» للموجي وأنجز الموسيقى التصويرية بليغ حمدي إضافة إلى لحنين شهيرين: «وحشتوني» والثاني الذي حمل اسم الفيلم. ذاقت وردة طعم النجاح الذي كرّسها مغنية كبيرة تستطيع التمثيل.
.. لم تقف حدود التعاون بين وردة وبليغ عند السينما، فقد أنجز واحداً وثلاثين لحناً لمسرحية: «تمر حنة - 1975» التي شاركها إياها عزت العلايلي تمثيلاً وغناءً. فقد أنجز فيها بليغ حمدي ألحاناً جميلة مجهولة من قبل كثير من المستعمين، ولا نبالغ أن تكون فرصة الاطلاع عليها مفيدة لتاريخ وردة وبليغ الفني. إنما في نفس العام ستتألق أغنية شهيرة لوردة: «دندنة» وكذلك الجميلة: «وماله؟».
.. تغني وردة من الفلكلور الجزائري يعالجها لحنياً بليغ حمدي: «فراق غزالي»، ويلحن لها أيضاً أغنية كانت سبباً بخصام بينها وبين عبدالحليم حافظ، وهي: «ولاد الحلال».
.. أعاد بليغ حمدي ترميم لحن أغنية تركها فريد الأطرش لوردة: «كلمة عتاب - 1977»، ونجحت لها، وسجلت وردة اللحن الجميل الذي لا تحبه كما قالت في أكثر من لقاءاتها التلفزيونية والصحفية: «عايزة معجزة» من شعر: عبدالوهاب محمد. توفرت هذه السنة أن يذهب لحن سيد مكاوي: «أوقاتي بتحلو» فيكون التعاون الأول بينهما وكذلك تتعاون مع الملحن الناشئ حينها حلمي بكر، الذي سوف ينافس سيد مكاوي في الثمانينات، في أغنية كبيرة: «ما عندكش فكرة».
.. تنجز فيلمها الخامس: «آه يا ليل يا زمن - 1978»، وهو من ضمن تصفيات مرحلة ما بعد الثورة مع العهد الملكي البائد سياسياً واجتماعياً، في حكاية عن ابنة باشا تؤمم أملاكها فتعمل مغنية في ملهى ليلي تلتقي بأحد الضباط الذين يريدونها أن تعود إلى مصر. لحن أغنيات الفيلم جميعها بليغ حمدي، وأبدع فيه مستخدماً كل أساليبه التلحينية في الخط الرومانسي: «ليالينا» والثانية: «الشموع»، الشعبية: «ليل يا ليالي» والألحان المستمدة من الفلكلور: «حنين» وأغنية مرحة هي: «باري» (أي باريس).
.. ستشهد الأعوام التالية دخولها الدراما التلفزيونية في مسلسل: «أوراق الورد - 1979» الذي لحنها بليغ حمدي من شعر: عبدالوهاب محمد وعبدالرحيم منصور. وستتعاون مع محمد عبدالوهاب في أغنية كبيرة: «في يوم وليلة» سيقلقه نجاحها المفاجئ، تعيد وردة غناء: «مقادير» التي لحنها سراج عمر لطلال مداح تكريماً له. ستشارك وردة في برنامج منوعات: «جديد في جديد» أنتجه تلفزيون دبي، وشاركت فيه ليلى مراد، وقدم بليغ حمدي أصواتاً جديدة كسميرة سعيد وعزيزة جلال. بعد شهرين يتم طلاقها معه.
.. تكمل وردة مشوارها الغنائي بألحان محمد الموجي، سيد مكاوي وحلمي بكر. كذلك بعض ألحان من محمد عبدالوهاب ويختم رياض السنباطي العام معها لحنه الكبير: «يا حبيبي - 1980».
.. سينشغل بليغ حمدي بتجارب لحنية جديدة مع سميرة سعيد أعادت له نشاطه الفني، ويرسل إلى وردة رسائل من نوع فني خاص، وهي الأغنيات التي لحنها لميادة الحناوي حيث كانت مذكراته الغنائية بعد الانفصال الفني والإنساني عنها، فأغنية: «كان يا ما كان» تحمل أجواء قصتهما الحقيقية، وكذلك: «فاتت سنة»، ثم «أنا بعشقك». يعود التعاون بينهما بأغنية كبيرة: «من بين ألوف - 1986» وقصيدتين من شعر مانع العتيبة. سيضطر إلى ترك مصر بسبب قضية مقتل سميرة مليان في شقته، بعد حادثة شجار لها وعشيقها فيها، وهو من أصدقاء بليغ حمدي، وسيغيب بين لندن وباريس (1986 - 1993).
.. قبل أن تقفل الثمانينات سنواتها ستكون نقطة تحول أن تعمل وملحني الجيل الثالث عمار الشريعي الذي سيخوض تحدياً معها ليعيد النظر - بلغة الفن والسحر - بكل ما عملته مع بليغ حمدي ومحمد عبدالوهاب، فمنحها أغنية كبيرة ورائعة: «قبل النهارده - 1987» التي استنفد الطاقات الصوتية لوردة متنقلاً بين انفعال التعبير وطرب الذات الفرحة. أنجز لها لحنين آخرين لنفس الشاعر عبدالرحمن الأبنودي: «طبعاً أحباب» وموشح جميل، هو: «يا ليل طول».
.. يتأخر تأكد بليغ حمدي من استحالة الرجوع مع وردة حتى عندما قدّم لحنه - الرسالة لميادة لحناوي: «الحل الوحيد - 1992». ويختم تعاونه، في نفس العام، مع وردة بأغنية: «بودعك» التي كان صعبا تقبّلها على منتظري عمل يستعيد لحظة الفرح والشعق التي كانت إبان أغنيات السبعينات بينهما.
.. أعادت وردة حساباتها من جديد هذه المرة، فهي تقْدِمُ على طي صفحة كاملة من المرحلة الغنائية الثانية، وفضّلت أن تبدأ بالملحن الذي اقترحته معرفة أخيها مسعود به، وهو صلاح الشرنوبي الذي سينجز من كلمات عمر بطيشة عدة أشرطة جميلة، ستوفر على جيل الحيرة الغنائية مثل: علي الحجَّار، محمد الحلو، إيمان الطوخي وأنغام مسألة الاختيار واستكمال المشروع الغنائي لكل واحد (أو واحدة) منهما على حدة. فالطريق صعبة على فناني مصر الشباب، لكن الظروف لن تهمل من يجدون عملاً.
.. «بتونس بيك - 1992» استطاعت أن تضفي ذات الأجواء الغنائية لوردة، بالنبر الإيقاعي القوي بطيئاً والجملة الموسيقية الطروب. أضاف الشرنوبي في نجاحه الفني رصيدا ارتفع وفتح له التعاون مع حناجر أخرى وجدته علامة موسيقية مضمونة، ربما بالسمعة الفنية لا الموهبة. وقدّم لوردة: «حرّمت أحبك - 1993»، ثم «نار الغيرة - 1994»، وساهم في تلحين أغنيات فيلمها السادس: «ليه يا دنيا - 1994» مع التعاون الأول مع محمد سلطان الذي كان بدأ يستعيد نشاطه الفني بمجيء المغنية السورية أصالة عبر أعمال ناجحة. لم تبق وردة حنجرتها أسيرة الملحن الواحد كي تتجنب لحظة الانفجار الفني الكبير بينها بليغ حمدي الذي أبعد قليلاً الملحنين كان المفترض التعامل معهم على السوية والمتاح.
.. أنجزت شريطاً متميزاً لم ينل حظه من الانتشار، فيما تجاوز حدود المعقول فنياً: «بحر الحب - 1993»، ونوعت مع ملحنين شباب في شريط: «ح أسهَّرك - 1996»، وبعد فترة شوشرة فنية بينها والشرنوبي استعادا بتصالحهما لحظة النجاح الفني ما كان استئنافاً فنياً لوردة وحفظاً من الاستهلاك الفني للشرنوبي عبر: «حبك مواسم - 1997». الذي يسجل ذروة عملهما فنياً.
.. تتوقف وردة لدواعٍ مرضية لسنوات، تخص أزمة القلب عندها، ثم تعود عبر تعاون منوع مع الملحنين المصريين والجزائريين منهم رضوان بوحيرد (أخو المناضلة جميلة) في شريط: «لو محتاج لي - 2001».
.. تتفرَّغ وردة بعدها لصحتها التي أخضعتها لفترة زراعة كبد، وتعاود الظهور تكريماً لها في برنامج «نورت الدار - 2004» (LBC) لتحكي بعض سيرة حياتها ويغني لها عبدالله الرويشد، إيهاب توفيق وأنغام. ثم تختم مهرجانات بعلبك الدولية - لبنان وفي ذات العام تنال تكريماً أخر: «دندنة - 2005» (MBC) لتغني مستعيدة صوتها ومرحها، كذلك آراءها الجريئة وصراحتها التي تثير حسد كثيرين سواء في إبداء إعجابها بمواهب جديدة أو رأيها في أغنياتها السابقة وبدايات ظهورها بين جيل سابق وكبير.
.. نستطيع أن نرصد لوردة ثلاث مراحل فنية، الأولى (1955 - 1963) البدايات التي سيطرت عليها مواضيع الغربة عن الوطن، التي أدخلتها دون رغبة منها في تيار القومية العربية الذي كان مستعراً أواسط القرن الماضي، تعاونت فيه مع ملحنين من مدرسة بيروت ودمشق، وكانت التهيئة الفنية لها لتنتقل إلى مصر عبر فيلم تناول موضوعة تاريخية وغناءها لملحني مدرسة القاهرة اللحنية مثل محمد عبدالوهاب ورياض السنباطي. أما الثانية (1972 - 1992) الانطلاقة الكبرى فنياً نحو الصف الأمامي ومساهمتها الكبيرة، في تطوير الغناء العربي مع زملائها في الحقل الفني، عبر وسائل إعلامية فنية كالمسرح، السينما والتلفزيون ما كرس تجربتها الفنية، واختبار مواهب تلحينية كانت تجرب طريقها الفني وتتكئ على مقدرة حنجرة وردة مثل بليغ حمدي وسيد مكاوي ثم حلمي بكر وعمار الشريعي. أما في الثالثة التي بدأت 1992 كان التعامل مع صلاح الشرنوبي وسواه (خاصة: أمير عبدالمجيد) بلورة لمواضيع الفراق والغربة اللتين تطورتا بشكل جلي وكذلك تشهدان نضوجاً فنياً كبيراً بات يحفظ لوردة مكانة كبرى بين جيلها من المغنيات، عندما ظلت فايزة أحمد تقبع في الصف الثاني بألحان محمد سلطان فيما لم تسعفها ألحان محمد عبدالوهاب (العائلية عن الأخ والأم) ولا الموجي الطربية التي تذكرنا بأعمال فيروز وفيلمون وهبة، وأما نجاة الصغيرة فلم يعد يسعفها تعاطف كمال الطويف بعد وفاة عبدالحليم ما أربك الحافز الفني لديه، واعتمادها على عبدالوهاب في مرحلة شيخوخة أجهز عليها بالانتظار والتفريط باستثمار نجاحات واعدة مع ألحان الموجي وحلمي بكر لم تمض فيها طويلاً.
.. تبقى وردة وفيروز، على صعيد الصوت النسائي علامتين كبيرتين في خط الغناء النسائي، فالأولى تنتمي إلى التقليدي فيما الثانية إلى الحدث، وهذا التصنيف النقدي لا يطول أن يعمم ذلك ذلك دون تأكيد تطورات لحقت بهذين الخطين لدى كل واحدة منهما.
.. ربما كانت الأصوات العربية التي جايلتهما لم تحظ بفرصة مثل غياب صوت عُليَّة باكراً. لكن الأجيال التي ظهرت بعد وردة في مصر أفادت من الخطوات الفنية التي دفعت بمواضيع تخص الحنجرة النسائية العربية أن تكتمل مع أصوات مثل: سميرة سعيد، أنغام وأصالة. كما في لبنان مع فيروز أن ترى بعض الأصوات التي لم تغب عن تكوينهن الفني مثل: ماجدة الرومي، فاديا الحاج وجوليا بطرس.
.. انتهي إلى رصد ثلاثة ملامح أساسية لحال الغناء العربي في عصر وردة الفني:
1 - تأنيث الضمير الغنائي.
2 - تكريس دراما الغناء مسرحياً.
3 - الانتقال من الغناء الطويل إلى القصير.
.. ما أقصده في تأنيث الغناء هو تلك الرقة الغنائية التي تكرست من جهة اللحن والكلمات، التي بدأت سريعاً وغابت فترة أوائل القرن مع أسمهان وليلى مراد، فيما تمثل على أشد عند وردة، لكونها من مغنيات الخط التقليدي الذي أخرت تطوراته أم كلثوم فترة سيطرتها الغنائية حتى نهاية الستينات، فنطق وردة لصيغة الفاعل المؤنثة: «عاشقة» من أغنية «دندنة - 1975» كان تحولاً مضمراً في خطاب أغنات المرأة العربية واعتماد بليغ حمدي على طبقات عليا بأداء ملوَّن في ألحانه مع وردة في مقامات موسيقية شريقة: كالبياتي والرصد، جانبت تلك الطبقة سابقاً كما في أغنيات: «لو سألوك - 1973» أو «عايزة معجزة - 1977» أو أغنيات مسرحية «تمر حنة - 1975» مثل البديعة: «الدار المهجورة» والدويشية المزاج «أنا من زمان».
.. أبرز ما يمثل الدراما في الغناء المسرحي، هو ألحان بليغ حمدي التي كان فيها إيحاء مخاطبة مباشرة مع الحضور كمثل: «خليك هنا - 1973» عندما يستخدم صيغة السؤال في جملة تصويرية: «قلت إيه مفارق؟.. إيه؟» أو «وماله؟ - 1975» في مرجعها الذي تكرر ثلاث مرات: «نصالحهم والا لا؟/ قولوا أيوه والا لا؟. نخاصمهم والا لا/ قولوا أيوه والا لا؟». أو الأغنيات التي تشتمل على مناجاة شعرية داخلية تستدعي حوارا نفسياً - غنائياً مثل: «أسمعوني - 1976» أو «ولاد الحلال» (نفس العام)... أما النقطة الفنية الصعبة هي الاعتراف الفني الكبير والجريء منها بأن عناصر الغناء من طرب أو تعبير تستطيع الجملة الموسيقية في اللحن أو الغناء تحمل طاقتها دون توزيعها بالتكرار والتفريع الموسيقي عبر أغنية طويلة تستلزم مقاطع متعددة ربما تنتهي المعالجة الفنية من مذهبها، وهذا ما وضعته في بالها عندما زاوجت بين الحجم الفني لأغنية السياق الدرامي في التلفزيون أو السينما كذلك استيعاب لمفهوم التقنية الوسائلية من الكاسيت إلى الأسطوانة المدمجة، لتنتهج غناءها في المرحلة الثالثة.
.. أعطت حنجرة وردة مسيرة غنائية ثرية بالزمن لخمسين عاماً وبالمستوى مع القيمة لأغنيات عبرت عن عصر الرومانسية الدرامية في الغناء العربي ولحقت دوراً في حداثة غنائية تصاعدت حدودها عناصر استجدت عبر التنسيق والتوزيع الموسيقي. إذ في خطها النسائي الغنائي أضافت كثيراً وفي سياق الغناء العربي هي علامة غناء كبرى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.