يبدو أن «الصمت» هو النهاية الطبيعية أو عنوان الصفحة الأخيرة في ملف قضية التهديدات التي تلقاها الدكتور سيد القمني (أو قال إنه تلقاها) في يوليو الماضي على بريده الإلكتروني من جماعات متطرفة أَمَرَته - وفقاً لروايته - بضرورة أن يكف عن الكتابة نهائياً في مقابل نجاته من القتل. فبعد ثلاثة شهور من فتح الملف أمنياً وإعلامياً وَطَرْح قضية القمني في الأوساط الثقافية المصرية والعربية؛ مر الأمر بهدوء أكثر مما كان يتوقع د.القمني وناشره (المتحدث بلسانه في بعض الأحيان) خالد زغلول، حيث جاء تعامل الأمن مع قضية التهديدات هادئاً وحكيماً وفي حدود نسبة المصداقية الضئيلة لهذه التهديدات المدّعاة، كما أن أغلبية المثقفين والإعلاميين وحملة الأقلام لم تخدعهم «الفرقعة»، ولم ينجرفوا إلى أفعال ثورية لمساندة د.القمني والدفاع عن موقفه «البطولي» كما كان يطمح، اللهم إلا فئة قليلة ممن أصدروا بيانات للتضامن مع القمني في «محنته» التي أدت إلى «اعتزاله الكتابة». والواقع أن «الصمت» الراهن هو المحنة الحقيقية التي تواجه د.القمني وحده (وربما كان هذا الصمت هو محنته أيضاً في أوقات سابقة، حيث إن عدداً من المخالطين له في الأوساط الثقافية المصرية يروجون لفكرة أنه كان يبحث عن الشهرة والانتشار بأية وسيلة وأي ثمن، بل إنه أسرّ في جلساته الخاصة على مدار السنوات الماضية بأنه يأمل في وجود جماعة تقوم بتكفيره بعد هذه السنوات التي أفناها من عمره وهو يهاجم المقدسات الدينية الإسلامية!). لقد أسدل الستار على قضية تهديدات د.القمني مبكراً، وفاتت فرصة استغلالها على النحو الأمثل بالنسبة له، فلم تَبْنِ هذه التهديدات المدعاة مجداً جديداً للدكتور القمني، ولم تُعْلِ أسهمه ككاتب وباحث تعوّد دائماً الدخول إلى مناطق محظورة، ولم ترفع توزيع مؤلفاته إلى أرقام قياسية (من مؤلفاته التي قابلها الكثيرون بالتحفظ والازدراء: «أهل الدين والديموقراطية»، «الحزب الهاشمي وتأسيس الدولة الإسلامية»، «شكراً بن لادن»). لقد بدت قضية تهديدات د.القمني، الحاصل على الدكتوراه في فلسفة الأديان، مثل فيلم من طراز اللامعقول؛ استطاع تفجير الإدهاش الجماهيري حقاً، لكن فنياته وحبكته الدرامية جاءت غير منطقية بالمرة. والحقيقة أن صنّاع الفيلم قد أرادوا تجديد دمائه أكثر من مرة بضخ عناصر جديدة في مادته، وذلك بعد أن ازداد التهكم على لا منطقية أحداثه، بل إن مجلة «روز اليوسف» نفسها؛ التي طالما أفسحت صفحاتها لنشر كتابات القمني والتكريس لنجوميته؛ وصفت الضجة التي أحدثها بيان الدكتور سيد القمني؛ الذي يفيد باعتزاله الكتابة وتراجعه عن أفكاره عقب تلقيه تهديدات بالقتل على بريده الإلكتروني؛ بأنها ضجة مفتعلة، وخصصت أربع صفحات كاملة للسخرية من تبرؤ الدكتور القمني من كافة مؤلفاته وكتاباته كما جاء في بيانه، وعلقت المجلة على هذا التراجع الفكري بأنه (توبة باليد اليسرى عن الأفكار المكتوبة باليد اليمنى!)، ولخصت قضية القمني برمتها بأنها (فيلم سيد القمني .. الكاتب الذي يخلع أفكاره!). هكذا سقط الفيلم (في طبعته الأولى) في دور العرض الكبرى المحترمة، حتى في الدار التي ظنها الدكتور القمني «داراً خصوصية»! ولم تعلن الجهات الأمنية ما يعزز موقف القمني، فلم يثبت بأي دليل أن هذه التهديدات التي وصلت إليه منسوبة بالفعل إلى «جماعة الجهاد» المحظورة في مصر أو إلى «تنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين»، كما أن الجماعة الإسلامية في مصر نفت فكرة أن تكون التهديدات التي وصلت إلى الدكتور سيد القمني جادة، وذلك باعتباره ليس من الكتاب أو الباحثين ذوي الاعتبار، فضلاً عن أن الاغتيالات ليست من سياسة الجماعة في الوقت الراهن إزاء الكتاب والمثقفين الذين تختلف معهم. وكان على صناع الفيلم إذن أن يحاولوا البحث عن عناصر جديدة لإدخالها إلى سيناريو الفيلم بهدف زيادة مصداقيته؛ بعد أن كثرت أصابع الاتهام التي تشير إلى أن أحداثه مغلوطة أو ملفقة أو مكذوبة. ومن هنا انطلق الدكتور القمني في وقت لاحق؛ متحدثاً من وراء جدران منزله التي احتمى بها من «أخطار العالم الخارجي»؛ قائلاً في بيان له إنه يرفض «جني ثمار» التهديدات التي وصلت إليه، وإنه لن يرضى بالعروض الكبرى التي تلقاها من أمريكا ودول أوروبية متعددة، رغم أنها عروض جادة تهدف إلى استضافته وحمايته وتوفير سبل الأمان والراحة له؛ لينطلق قلمه بالكتابة كيفما يشاء! وأكد القمني أنه لن يغادر وطنه مهما كانت العواقب، وأنه لن يتراجع عن (تراجعه) أي عن (توبته)! أما العنصر الأكثر إثارة الذي أضيف إلى فيلم د.القمني بهدف محاولة ترويجه في اللحظات الأخيرة، فهو محاولة ربط تهديدات القمني بحادثة اختفاء الصحفي المصري رضا هلال مساعد رئيس تحرير صحيفة «الأهرام» منذ حوالي عامين في ظروف غامضة، حيث زعم د.القمني وزعم ناشر كتبه خالد زغلول أنهما تلقيا بياناً آخر نسب إلى جماعة الجهاد؛ يفيد بقبول توبة د.القمني الذي نجا بتوبته من مصير الصحفي رضا هلال الذي «تم قتله برصاص الموحدين» كما يقول البيان المزعوم! لقد وصل الفيلم في منعطفه الأخير إذن إلى ذروة اللامنطقية، وبالتالي ازداد العقلاء انصرافاً عن متابعته، الأمر الذي جعل «الصمت التام» هو النهائية الطبيعية لملف تهديدات د.القمني!